"لولا الخيال لكنا اليوم في عدم" (ابن عربي).
لا يحاسب إنسان على خياله، ولا يكافأ أيضا. لكن، وكما يقال، تبدأ المسؤولية في الأحلام؛ ما من فكرة أو منجز أو اختراع أو انتصار، إلا وكان خيالا. والحال أن الخيال ثروة عظيمة اليوم، وتقاس ثروة الأفراد والأمم بما تملكه من خيال. لا نحتاج لأجل التقدم والتنمية سوى الخيال!
يقترح موراكامي على لسان الغراب في روايته "كافكا على الشاطئ"، أن يتخيل تامورا. ثم تمضي الحياة والأحداث كما الخيال. يقول له الغراب كرو: تخيل عاصفة رملية.. ولا تفكر في شيء آخر. يفعل تامورا كما يقول، ويُخرج من دماغه كل شيء آخر "حتى إنني أنسى من أكون.. أصبح صفحة بيضاء". يستمع الى كرو يحدثه.. "القدر كعاصفة رملية لا تنفك تغير اتجاهاتها، وأنت تغير اتجاهك، لكنها تلاحقك، تراوغها مرة بعد أخرى، لكنها تتكيف وتتبعك.. تلعب هكذا مرارا، كرقصة مشؤومة مع الموت في الفجر. لماذا؟ لأن هذه العاصفة ليست شيئا يهب فجأة من بعيد، ليست شيئا لا يمتّ لك بصلة، إنها أنت، شيء في داخلك، وكل ما عليك فعله هو أن تستسلم لها.
ادخل إليها مباشرة، أغمض عينيك، وسدّ أذنيك حتى لا تتسلل الرمال إليهما، وسر في العاصفة، خطوة بعد خطوة، ليس من شمس هناك ولا قمر، ولا اتجاهات، ولا إحساس بالزمن، فقط دوامة من الرمال البيضاء الناعمة تصعد إلى السماء كعظام مطحونة، هذه هي العاصفة التي عليك أن تتخيلها". وعليك أن تنجو وسط تلك العاصفة الباطشة الميتافيزيقية الرمزية.
الخطأ ممنوع.. ولحظة انتهاء العاصفة لن تتذكر كيف نجوت أو كيف تدبرت أمرك لتنجو، ولن تدرك هل انتهت العاصفة أم لا؛ ستكون متيقنا من أمر واحد فقط: حين تخرج من العاصفة لن تعود الشخص نفسه الذي دخلها، ولهذا السبب وحده كانت العاصفة.
.. يتخيل كافكا نفسه يحاكم بسبب الحلم وما حدث فيه. يقول المدّعون: هذا الحلم تسلل إلى داخلك، إلى رواق روحك المظلم! حتى الموت لم يكن سوى قرار يتخذه الإنسان نفسه، مثل جنود يتحدث عنهم في الحرب العالمية الثانية سرقوا أنفسهم كي يموتوا، لأنهم لم يكونوا يريدون المشاركة في الحرب!
بالطبع، لم يقل كافاكا ومن بعده موراكامي لنا ذلك لنتتبع قصصا وأحداثا أنشأها الخيال والغموض، ولكن يتعلم الإنسان من الرواية الحقيقية ربما أكثر من غيرها. وهذا يحيرني كثيرا؛ مسائل ومعارف تشكله وتعيد تشكيله، وكأنه بعد قراءتها ليس هو قبل قراءتها.
(الغد)