الثلوج والأمطار سقيا السماء؛ كان لها قبل الإسلام آلهة تروي السهول وتغذي الآبار وتخصب الأرض. وكان الناس يشكرون "بعل" الذي يقيض لهم الحياة، ولا يسعون لإغضابه حتى لا تنحسر الأمطار، ويعاني الناس من الجفاف والهلاك. لدى كل الأقوام كان المطر هو الحياة، والأمل والرجاء. فحيكت القصص، وحبكت الروايات، ونُظمت الأغاني الفلكلورية التي تناشد السماء بالمطر "يا أم الغيث غيثينا... واسقي زرع أروعينا".
وفي التراث الديني، يعتبر المطر والماء والغيث المحرك الأساس للأمل، والمعبر عن رضا الإله، وإمكانية استمرار الحياة. وفي أجنداتنا العربية للزمن وتقسيم الفصول والأشهر والأيام والعشريات، دلالات يضبطها المطر وتدور حوله. فللشتاء فصل، يتلوه الربيع الذي تتحدد هويته وخصبه اعتمادا على الشتاء، يتلوه الصيف، فالخريف. والأسماء للأشهر تدور حول مواسم المطر.
لقد حرص العقل الجمعي على أنسنة الزمن ليعبر عن شدة تعلق الناس ببيئتهم ومناخها وظواهرها، وعن أهمية المطر والمكانة التي يحتلها في حياتهم؛ فجاءت تقسيمات المربعانية والخمسينية إلى أجزاء، لكل منه خصائصه وطبيعته وتوقعاته التي ينتظرها الناس ويتفاعلون معها، وتشكل مكونا من مخزون خبرتهم وحكمتهم، وتستولي على جل أحاديثهم. فلـ"سعد الذابح" خصائص وطبائع غير التي يمتاز بها "سعد بلع" و"سعد السعود"؛ وفي "سعد الخبايا" تخرج الأفاعي والكائنات التي استمتعت بالسبات الشتوي لتجدد نشاطها.
وعلى مر الزمن، لم تغب نظرة التفاؤل، ولا قدسية الشتاء والثلج عن ثقافتنا أبدا. ففي إحدى روائع أبي تمام يخاطب الغيمة العابرة بحب، كما يخاطب امرأة جميلة، فيقول: "ديمة سمحة القياد سكوب... مستغيث بها الثرى المكروب". وفي قرانا، وعلى امتداد أراضي المسلمين في المشرق والمغرب، ظلت صلوات الاستسقاء دليلا على معنى الشتاء في حياتنا قبل ظهور تقنيات التحلية والجر والحفر والتحويل وغيرها.
الغريب والمدهش أنه على الرغم من وجود بقايا لتعلق الناس بالمطر وابتهاجهم به وبطقوسه، إلا أنه لم يعد ظاهرا في ثقافتنا بعد أن حولنا المطر إلى أزمات، وأصبح الهاجس هو كيف تنجح أو لا تنجح الحكومة في معالجتها. فقد صرفت الاستعدادات للوقوف في وجه العاصفة اهتمامنا عن المعاني الجميلة التي يحملها المطر في بلادنا، ودلالاته وانعكاساته، خصوصا لبلد يعد الأفقر في المياه بين بلدان الإقليم، والرابع فقرا على صعيد المياه عالميا.
الطريقة التي نتعامل بها مع العواصف، تنزع البهجة من صدورنا، وتفصلنا كثيرا عن المشاعر التي اعتدنا عليها إبان الموجات في الستينيات والسبعينيات؛ يوم كان آباؤنا وأمهاتنا يعبرون على طريقتهم بالدعاء والثناء والشكر للخالق على نعمه؛ ويوم كانت القرى التي تتقطع بها السبل تدير شؤونها ولا تفقد بهجتها وتقديرها واحتفالها بالقادم الأبيض، وما سيأتي بعده من خير عميم.
طوال الموجة الأخيرة، اختفى وزيرا الزراعة والمياه عن الشاشات ومن وراء الميكروفونات، ليحل مكانهما وزيرا الداخلية والأشغال، وكأن المسألة شوارع وغزو ينبغي أن نقف في وجهه، بدل أن نبث الأمل والرجاء والبشرى في نفوس الناس.
كنت أتمنى أن أستمع إلى تحليلات عن الزراعة ومستقبلها، وإرشادات الوزارة وخبراء المحاصيل والثروة الحيوانية عما ينبغي عمله اليوم وفي الأيام المقبلة، غير الجمل الاستدراكية و"الكليشيهات" التقليدية العابرة، بأن الأمطار والثلوج ستزيد المخزون الجوفي وتغذي السدود وتحسن الموسم الزراعي.
لقد أدى انفعالنا الحضري، وخوفنا من أن نخفق في سباق التفوق على العاصفة، إلى أن ندفع بما يزيد على 400 طن من الملح إلى شوارع عمان، بطريقة قال عنها وزير البلديات إنها غير مدروسة وغير مجدية؛ أي من دون أن نحسب تأثيرها على المياه التي نحاول جاهدين جمعها في السدود التي لا تتجاوز سعتها مع الحفائر 350 مليون متر مكعب، وما تزال في حدود منتصف سعتها. والشوارع فقدت قببها الفسفورية، والجرافات التي جئنا بها من كل حدب وصوب أحدثت خرابا في البنى التحتية لشوارع بلداتنا وقرانا.
إنني لا أقلل من جهود المؤسسات والقائمين عليها، بل أدعو إلى تلمس الجنسية الثقافية لمواطنينا ووجدانهم، والتوقف عن تغليب الاستجابة للشكوى والتظلم على حساب معاني الخير والخصب والعطاء التي تحملها الثلوج والأمطار، والتفكير بالتالي في كيفية الإفادة منها واستثمارها، لا لتخزينها للتبخر.
في بلادنا، كان ثمة أغنية نصحو صباحا عليها كلما كانت السماء تمطر: "هات بروق.. وهات رعود.. والبرد إللي لافحني ما فيه منه". أتمنى أن نحيي تراث المطر ومعانيه، وأن نوجه الناس إلى الزراعة والجمع. وليتنا أعطينا الفلاحين بذارا بدل الملح، وجرارات (تركتورات) زراعية بدل الجرافات، وإرشادات زراعية بدل التحذيرات الأمنية.
وكل عاصفة ونحن بخير.
الغد.