كبيرة وواسعة ومنبسطة مدينة اسطنبول التركية، وفيها من جمال الطبيعة الكثير، وتلمس وأنت تتجول في شوارعها حجم الإصرار الذي ظهر من قبل الناس والذي حول تركيا من "رجل مريض"، الى رجل منتعش اقتصاديا.
وقبل ان يعتقد البعض أنني أثني هنا على سياسة رجل واحد فقط، وألمح لدور الرئيس التركي الحالي رجب طيب اردوغان وحده في تحقيق ذلك، فان عليك أن تتحدث مع الناس لتعرف أن تركيا استطاعت من خلال بناء استمر أكثر من 90 عاما أن تعود للواجهة وأن تنقل شعبها من حالة لأخرى جراء ما راكمته من رؤى ديمقراطية بات من الصعب العودة عنها أو التراجع عنها قيد أنملة.
فقد نجحت تركيا في زرع قيم الديمقراطية والحضارة والتطور والبحث عن الأفضل في نفوس أبنائها وشعبها ولذا تراها تستثمر في السياحة والصناعة وحتى في السياسة.
سر النجاح التركي الذي يتغنى به البعض، ويفضلون نسبته لشخص واحد فقط هو اردوغان، لمسته في اسطنبول، فالأتراك عرفوا ما عانته أوروبا قبل مئات السنين، فذهبوا لفصل الدين عن الدولة، وحتى لو حكم تركيا حزب إسلامي أو حزب يساري أو يميني أو علماني، فإن الثوابت ستبقى واحدة لا يمكن القفز عنها.
مثلا، وأثناء حضوري لاجتماعات مؤتمر البرلمانيات المسلمات كانت رئيسة المؤتمر مكشوفة الرأس، وهذا لم يؤثر عليها لقيادة مؤتمر النساء المسلمات، ولم يؤثر عليها للحديث عن حزبها وإنجازاته، ولم تجد غضاضة في الثناء على اردوغان لدعمه المرأة وسن قوانين تجرم أي اعتداء عليها.
هذا التطور في الرؤى ربما هو ما نحتاج اليه حاليا في بلادنا، اذ لم يمنع وجود اردوغان وعبدالله غول في الحكم من استثمار السياحة في تركيا، ولم يفرضا على الأتراك تصرفا معينا أو لباسا معينا، أو توجها معينا، فلكل شخص حريته في التصرف بما يضمن عدم مضايقة الآخرين أو الاعتداء على حرياتهم، ولو فكروا في فرض ما يرفضه الناس فإن ساعة رحيلهم تكون قد اقتربت.
ربما كان من الواجب على كل الاحزاب الدينية في منطقتنا العربية أن تدرس وتشاهد التجربة التركية رأي العين وأن تعرف أن اردوغان وأركان حزبه لم ينجحا لأنهما فقط جاءا من حزب إسلامي ذي توجهات إسلامية، وإنما لانهما قدما برامج للشعب التركي وضمنا له عدم المس بحريته الشخصية والفكرية، فلا يكفي أن نتغنى باردوغان وحزبه من دون الرؤية بالعين. هناك سنعرف ان الشعب التركي هو الضامن للتجربة التركية وأن التطور الذي نتحدث عنه قد بدأت صياغته قبل عشرات السنين من خلال التوجه نحو الفكر المدني الحر وليس الفكر المنغلق المنكفئ على نفسه والذي لا يهتم إلا بالتحريم فقط وإصدار الفتاوى لاستباحة النساء.
يمكن القول إن أي تجربة حقيقية بمكن البناء عليها سواء كانت تجربة اردوغان او تجربة مخاتير محمد في ماليزيا ما كان لهما أن تنجحا من دون فكرة الدولة المدنية، وفي الدولة المدنية تحضر حقوق الانسان وحقوق المرأة والطفل وحرية الفكر والمعتقد.
في اسطنبول وفي كل دقيقة وأنت فيها تشاهد وترى، يتعمق لديك الشعور بأن هذا الشعب استطاع أن يعبر النفق الذي دخل فيه أوائل القرن الماضي ونجح في عبوره بنجاح، عبر بناء دولته المدنية العلمانية.
على المقلب الآخر في اسطنبول وفي ميدانها الأشهر "تقسيم" تستفزك حجم معاناتنا نحن العرب وصراعنا مع الذات، صراعنا الذي خلقناه نحن وكبرناه حتى بات بمثابة بعبع لنا، في "تقسيم" الجميع يعبر من أمامك لا ينظرون إلى الآخرين إلا نادرا، قد تجد شابا وشابة يتمشيان يأكلان "الكستنا" التركية، وهناك قد تشاهد عازفا او عازفة يجودان بألحان جميلة يمتعك سماعها، وبين هذا وذاك لا يفوتك أن ترى بأم العين حجم المأساة السورية التي تراها واضحة جلية تركض بين جانبيك، والتي حولت الشعب السوري من شعب مكتف اقتصاديا إلى شعب مشرد في أصقاع المعمورة.
في اسطنبول تعرف أن تركيا ما استطاعت أن تنتقل من مرحلة لأخرى من دون عبور الدولة المدنية ومن دون فصل الدين عن الدولة.
"الغد"