على خلفية شارلي إيبدو .. رسالة عمان الإعلامية
أ.د. عصام سليمان الموسى
21-01-2015 11:32 AM
* على خلفية شارلي إيبدو .. رسالة عمان الإعلامية وفتح ملف النظام الإعلامي الجديد في اليونسكو
فجرت عملية صحيفة (شارلي ايبدو) الارهابية في باريس ومقتل 12 من العاملين فيها، من جملة ما فجرته، اشكالية حرية التعبير وسقوفها العليا، وآثارها على العالمين العربي و الغربي، والدعوة لمعالجة الأمر أمميا، وقد تكون البداية في منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.
وكانت الأمم المتحدة أقرت عام 1948 ميثاق حقوق الانسان الذي نصت المادة المشهورة رقم 19 فيه على ما يلي: «لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية».
الرقمنة والسلطوية
ووقعت الدول العربية على هذا الميثاق، دون ان تطبق هذا النص بحذافيره، لأسباب سياسية وعقائدية مختلفة، أهمها سيادة مفهوم السلطوية (Authoritarianism) في الحكم، الذي يعمل على تقديم وجهة نظر السلطة الحاكمة دون ان يسمح بتوجيه النقد لها او تقديم وجهات نظر معارضة. وبقي الأمر كذلك، حتى جاءت الثورة الرقمية (Digitalism) الحالية قبل ربع قرن مع تطوير الانترنت، وبفعل حتميتها انتصرت تكنولوجيا الاتصال على الأنظمة، فضعف احتكار المعرفة من قبل السلطة، والغيت الرقابة المسبقة، وصار امكان الوصول لكل ما ينشر وفي أي مكان من العالم متيسرا لمن امتلك تلك التكنولوجيا. إثر ذلك، اضطرت الحكومات العربية «بخجل» الى الانحناء امام العاصفة والعمل على اصلاح قوانينها لمسايرة الواقع، والحضارة الانسانية، خاصة بعد ان امتلك كل فرد تقريبا التكنولوجيا الرقمية- ممثلة بالهاتف الذكي (Smart Phone) -الذي يوفر 7 وظائف: الهاتف، والكاميرا، والالعاب، وارسال الرسائل واستقبالها، والايميل، والوصول لقواعد المعرفة، اضافة الى سهولة استخدامه ونقله.
إشكالية حرية التعبير
وهكذا غدا مفهوم حرية التعبير عندنا مفهوما إشكاليا، فهو مفهوم جديد على مجتمعاتنا العربية، ولم يحدث نتيجة تطور المجتمع العربي ونضجه نضجا طبيعيا واكب تطور الحضارة الانسانية. جميع الأنظمة العربية قمعت حرية التعبير حتى وقت قريب وطبقت مفاهيم (نظرية السلطة) بحذافيرها ومنعت وجهة النظر الناقدة من الظهور فقاد ذلك لظهور مواطن سلبي. وتواصل هذا الوضع في الثقافة العربية منذ العصر الأموي، اذ بقيت تلك الحرية (نخبوية) واقتصرت على فئات محدودة، بل ان الخليفة المأمون في مجالسه الفكرية كان يناقش ويجادل بحرية وانفتاح، لكن ضمن دائرة ضيقة مغلقة. وازداد الوضع سوءا بعد سقوط بغداد عام 1258م وقاد ذلك تقريبا الى اندثار الشخصية القومية العربية واختفائها عن مسرح الأحداث الفاعلة في مسيرة الحضارة.
في اوروبا، تطورت حرية التعبير بعد اختراع المطبعة عام 1439 وانتشار المعرفة على نطاق واسع وظهور مدارس فلسفية في أوروبا غلبت العقل، فظهرت العقلانية، التي سمحت بحرية التفكير وأعلت النقد ومناقشة وجهات النظر المتباينة بدون حدود، فقاد ذلك لظهور الليبرالية(Libertarianism) التي طغت على الحياة وفصلت الدين عن السياسة. بالمقابل أصدر شيخ الاسلام في الدولة العثمانية فتوى دينية اعتبرت المطبعة «رجس من عمل الشيطان»، واستثنت الفتوى الطوائف الدينية، فعمل العرب المسيحيون ، وخاصة في لبنان وحلب، على حفظ جذوة التراث العربي، واللغة العربية، وقادة ووهاجة، حتى قيام الثورة العربية الكبرى والتي كان أحد أهم أسبابها عملية التتريك وشنق جمال باشا السفاح لمفكري العرب في أيار عام 1916 في ساحتي الشهداء في دمشق وبيروت. ومع الثورة العربية بدأت الشخصية العربية تظهر على مسرح الأحداث الدولية مجددا.
الحرية و المسؤولية الاجتماعية
حين اكتشف الأميركيون ان الحرية الأوروبية التي اعتمدت العقلانية لا حدود لها، طوروا نظرية المسؤولية الاجتماعية (Social Responsibility)، التي تقول بان الحرية يجب الا تتعارض مع المصلحة العليا للوطن. ولذا نجد الصحافة الأميركية تحارب الوجود العسكري الأميركي في فيتنام بعد ان اكتشف مراسلوها ان وزارة الدفاع تقدم تقارير مخاتلة، فانسحب الأميركيون من هناك تحت وقع المظاهرات وضغوط الرأي العام المتزايدة. لكن الصحافة الأميركية عادت وانحنت امام رغبات (بوش الابن) في حربه على العراق وأيدته بناء على استراتيجية اعلامية طبقتها ادارته عرفت بأل: (Embedded Journalism) التي بموجبها تم ارسال الصحفيين مع الجنود للمعركة، فعاشوا معهم في الخنادق ورافقوهم في الدبابات، وقدموا تقارير متعاطفة لكنها منحازة للجيش الأميركي وفظائعه. بل ان الأميركيين ذهلوا وقتها من عدم احترام العرب لتقاريرهم الإخبارية وسألني وقتها مراسل مجلة التايم لماذا؟ فقلت له لأن اعلامكم ببساطة يصور الصواريخ المدمرة وهي تنطلق من قواعدها بينما التلفزيونات العربية تنقل صور آثار تلك الصواريخ المدمرة حين تقتل المواطنين العزل وتنقل صور الآمهم ومعاناتهم. وحاليا تشهد الأدبيات توجيه النقد الشديد للصحافة الأميركية لتخليها عن مبادئ النزاهة والموضوعية في تلك الحرب، باعتبارها ضللت الشعب الأميركي ولم تقم بواجبها في تنوير الرأي العام - لكن (بعد ان وقع الفاس في الرأس)- وحقق بوش أهدافه وحقق تأييد الشعب الأميركي لمغامراته.
مناظرة اليونسكو
وهنا لا بد من ذكر ان أمريكا قد أعلنت عن نيتها للعودة الى اليونسكو عشية الحرب التي شنها (بوش الأبن) على العراق عام 2003، بعد ان انسحبت مع حليفتها المزمنة بريطانيا من تلك المنظمة الدولية التي تعنى بشؤون الفكر والثقافة والاعلام والتعليم، إثر (مناظرة الإعلام الدولي الجديد) المشهورة، والتي دارت رحاها في السبعينيات من القرن الماضي في رحاب منظمة اليونسكو (UNESCO) وانتهت باستقالة المدير العام الافريقي (امبو) الذي تبنت المنظمة في عهده الدعوة لقيام نظام اعلامي جديد متوازن مع دول العالم الثالث. وبعد استقالة (امبو)، اعتمدت اليونسكو، بقيادة مديرها العام الإسباني فدريكو مايور، الذي جاء في أعقاب تلك المناظرة، الى تبني سياسة «تؤيد المبادئ الغربية في حرية الصحافة وحرية التعبير وتطوير وسائل اعلام متعددة ومستقلة». ومهدت تلك السياسة لعودة أمريكا وبريطانيا للمنظمة الدولية، كما مهدت لظهور اعلام (شبه) متنوع في البلدان النامية.
الأردن سبق الدول العربية
في الدول العربية، جاءت حرية التعبير متأخرة، وكنا في الأردن من السباقين لممارسة حرية التعبير منذ عام 1989 حين اجريت الانتخابات النيابية وصدر اولا: قانون الأحزاب عام 1991 الذي سمح للأحزاب ان تنشط فقدمت صحفها وقادتها وجهات نظر جديدة، وناقدة؛ ثم جاء قانون المطبوعات عام 1993 الذي رفع سقف حرية التعبير بمباركة من جلالة الملك عبد الله الثاني الذي أكد ان الحرية سقفها السماء، فظهرت صحافة ووسائل اعلام متنوعة المشارب ناقشت الأمور الاجتماعية والسياسية بحرية عالية، الأمر الذي حال دون وقوعنا في عين عاصفة الربيع العربي واشكالياتها الدموية والفوضوية.
تأزيم مفهوم حرية التعبير
ما اعتور مسيرة حرية التعبير في بلادنا العربية، كما أشرت أعلاه، امور منها: وجود فجوة ثقافية (نتجت عن منع دخول المطبعة) بين الفكر العربي والغربي تقدر بأربعة قرون استشرى خلالها الجهل والتخلف، وعدم تطور مفهوم الحرية الصحفية ونضجه نضجا طبيعيا موازيا لتطور المجتمعات العربية في الجوانب المادية والاستهلاكية ، وفاقم الوضع عدم تطور نظامنا التعليمي في الجامعات التي كانت ولا زالت تعتمد التلقين لا التفكير، فمثلت امتدادا للفكر السلطوي الذي حكم غالبية الدول العربية. يضاف الى ذلك تقصير المثقفين العرب في مواجهة التحديات الاجتماعية والثقافية والسياسية بعقل منفتح. وازداد الوضع سوءا مع استشراء ثقافة شفوية متجذرة عززها الراديو ثم التلفاز. ومؤخرا، ومع قدوم (الليبرالية العربية التي وصلت الينا عبر الثورة الرقمية) تأزم الوضع مع محاولة مؤسسات المجتمع المدني التي تعنى بحرية التعبير، وخاصة الممولة من الخارج، «بحقن» مفهوم «حرية التعبيرالغربي» في جسم «النظام العربي» بصورة لا تأخذ بعين الاعتبار قدرات هذا المجتمع، ذلك ان حرية التعبير والديمقراطية لا تأتي بجرة قلم، وانما هي بحاجة لنضج فكري واجتماعي وثقافي. و مثل هذا «الحقن» بالتأكيد لا يأتي بنتائج ايجابية، بل يقود الى تعقيد الوضع، لأن المفاهيم الواردة من الغرب تطورت بنائيا مع تطور تفكير المجتمع هناك، في حين ان مجتمعنا لا يزال مترددا: هل يقبل حرية التعبير الجديدة هذه التي فرضتها التكنولوجيا الرقمية، ام لا يقبل؟ وخير مثال على هذا الموقف المتردد اجتماع وزراء الإعلام والاتصال العرب في شباط عام 2008 في القاهرة حين تم استصدار (وثيقة مبادىء تنظيم البث والاستقبال الفضائي الاذاعي والتلفزيوني في المنطقة العربية)، وتم وقتها ايقاف بعض القنوات عن البث وملاحقة بعض كتاب المدونات. وهذه دلالة واضحة على ان المسؤول العربي الاعلامي-في هذه الحالة تحديدا- كان غير مساير لعصره لا تقنيا ولا علميا، اذ ان الشبكة العنكبوتية لا يمكن التحكم بها، كما ان الربيع العربي انفجر بعد أقل من عامين من ذلك الاجتماع مستفيدا من التكنولوجيا الرقمية ومن وسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق أهدافه.
رسالة عمان الاتصالية!
نخلص من هذا العرض الى ضرورة ايلاء موضوع «حرية التعبير» الأهمية التي يستحقها بما يقود لفتح ملفها: أولا في وطننا العربي، وتكون البداية من الأردن للوصول الى رسالة شبيهة (برسالة عمان) التي ركزت على الوسطية والاعتدال ، ويطلق عليها (رسالة عمان الاتصالية) ويتم فيها ادانة التطرف بأشكاله ومنها حرية التعبير (كما في شارلي ايبدو)؛ ويتبع ثانيا فتح الملف مع (اليونسكو)، لتدارس المفهوم بصورة تلبي احتياجات الشرق والغرب في ضوء المستجدات التي تدعو بكل تأكيد لإيجاد نظام اعلامي جديد يتم فيه احترام الروحانيات، بعيدا عن المادية المفرطة والتعصب الأعمى، وضمن شعارات «الإخاء والحرية والمساواة»، التي جاءت بها تحديدا الثورة الفرنسية نفسها قبل 226 عاما.
علينا في واقعنا ان نأخذ المبادرة، ونقدم للعالم ما يؤكد ان الحضارة العربية لا تزال قادرة على العطاء والتفاعل مع الأحداث المصيرية، وانها تتفاعل مع المعطيات الفكرية ولا تكتفي بالشجب والإدانة . الرأي