( موقف حزيـــــن لإمرأة طالـــــت جيبها يـــــد أحد النشاليـــــــن لتسرق عشريــــن دينـــارا هـــــــي كل ما تملك في هذه الدنيـــا لتسد بـها جوع ستــة أفواه . جـــــرى ذلك فـــــي يــــوم الوفــاء الكبير لوائل كفوري في مدينة العقبة يـوم أن جاوزت بطاقة الدخول الثلاثين دينارا فكانت هذه التداعيات)
------------------------
امرأة خمسينية اتشحت بثوب أسود خالطته ألوان آخرى من طول الزمن ، التغضنات التي غزت وجهها تشف عن حياة متعبة ، صغيرها يشد بقوة على طرف ثوبها وكأنما يخشى أن تغافله وترحل ،العيون في المكان تتفحصها وهي تغالب دمعها، وصوتها المتهدج يتحول الى شبه أنين ( يا ناس كيف بدي أطعم زغاري ) سرقها من لا يخاف الله ، يا ليته سرقَ روحي ولم يسرقْ قوت أطفالي ، كيف سأعود الى البيت ؟ وماذا سأقول لهم ؟ أسئلة المرأة الحزينة سياطٌ على ظهورنا وتوشك أن تسقطَ عنا ورقة التوت التي تستر كثيراً من عيبنا .
نعم كيف ستطعم هذه المرأة صغارها؟ سؤال أصبح عصياً على الإجابة ، ونحنُ من نحنْ ؟ ألسنا من هذا السؤال ومحتواه ؟ ومن جانب آخر ألسنا من صُلب اجابته فإن كنا من أخوة هذه المرأة في الجوع فنحن من مضمون سؤالها ، وإن كنا من القطط السمان المترفة فنحن من جوابها الذي أخشى أنه لن يصل لها .
يا ناس كيف سأُطعم هذه الأفواه في هذا الزمن الصعب ، فالطرق مسدودة والنهار لا يشجعْ ، وليس أمامي الا الليل الذي يوميء لي لأدخل عتمته وعيونه المتلصصة والمتوحشة تنصب حبائلها لي وتتربصُ بي .
يا ناس لو أغراني ليل الجوع وتخطيت عتبته فستلعنونني في سركم وعلنكم ، وسيغيب عنكم سؤالي لماذا لم تفتحوا لي كوةً صغيرة على النهار حتى لا أقع في شَرَكِ الليلِ ؟وحتى لو لامس هذا السؤال أسماعكم ستعودون تمطرونني باجابات تدفعني - مضطرّة - أن أطرُق باب الليل من جديد 0
ياناس هل أسرق ؟ ستقولون عني ملعونة وستحملوني وزرَ كل سرقاتكم ، هل أبيعُ ما بقي من جسدي ؟ حينها سأكون في نظركم رِجسا من عمل الشيطان وسأُطرد من حظيرة رحمتكم ، وسترجمونني بحكمتكم المكرورة تموتُ الحرةُ ولا تأكل بثدييها ، هل أترك هؤلاء الصغار وأولي ظهري لهم ؟ وعندها ستقولون : تركتهم لعاديات الزمان ، أتت بهم وأضاعتهم ، يا لها من امرأة شيطانية .
جاع الناس ياعمر وجاع اطفالي ومسَّني واياهم السغبْ ، وانا في كل ليلة أرقُب الدرب ، لعل هناك من يطرق ليلي ليوقد نار القدر ، ولكن الفجر يأتي ليعلن عن طريق تكذب حلم العين ، واطفالي - يالبؤسهم - عيونهم تتعلق بعينيّ وحين ينشق النهار عن خواء ، تعود عيونهم كسيفة فعين أمهم لا تملك الا الانتظار.
يا أبا اليتامى ، يا عمرَ الخير ،عام (الرمادة) يطاردنا وينشب أظفاره فينا ،فأضجَّ وصغاري بالصوت وننادي ونصرخ هل من عمر في القوم ؟ هل من بقية من عمر ؟ فيرتد الصدى لا عمرَ في القوم ، لا عمرَ في القوم ، فتطبق أجفاني على سيل من دموع أبلل فيه جوع صغار ناموا ،لعل حلم يفلتُ من بين فكيّ هذا الزمان ،يطرق نومهم فيروا فيه أن قدرهم قد أُوقدت ناره وعمر وأسلمْ يطوفان بالمكان ويطرُدان شبح الجوع الأسود من حياتهم الغضة .