لم تصمد موجة التعاطف في الشارع العربي مع فرنسا طويلا؛ فبعد أسبوع على الهجمات الإرهابية بحق صحفيي "شارلي إيبدو"، والمتجر اليهودي، عادت الصحيفة المذكورة لتنشر رسوما للرسول الكريم في عدد خاص بعد المذبحة. كانت باريس قبلها بقليل قد شهدت مسيرة مليونية مناهضة للتطرف والإرهاب، شارك فيها ممثلون عن خمسين دولة.
نشر رسوم كاريكاتورية مرة أخرى أثار سخطا واسعا في العالمين العربي والإسلامي، وشهدت عواصم عربية وإسلامية يوم أمس، مسيرات تندد بهذه الخطوة الاستفزازية، وصب خطباء المساجد جام غضبهم على فرنسا وعلى الصحيفة.
بدا موقف الأردن أنموذجا لما يمكن أن تمثله مثل هذه الأفعال من ضغوط على دولة معتدلة، تكافح من أجل احتواء موجات التطرف والإرهاب في المنطقة.
لقد شارك الملك والملكة في مسيرة باريس للتنديد بجرائم الإرهابيين، وللتأكيد بأن أفعال هؤلاء لا تمثل الإسلام في شيء. لكن الديوان الملكي لم يكن بوسعه أن يتجاهل سلوك الصحيفة الاستفزازي بعد ذلك، فأصدر بيانا يدين نشر رسوم تجسد شخصية الرسول الكريم، واصفا الخطوة بأنها تصرف غير مسؤول وغير واع لحقيقة حرية التعبير.
الرأي العام الأردني كان في الأصل منقسما ومتشككا حيال هجمات باريس؛ البعض كان يرى فيها عملا مدبرا من قبل إسرائيل لشيطنة صورة المسلمين في العالم، فيما أظهر اتجاه لا يستهان به قدرا من التشفي بالضحايا لقاء ما ارتكبوا من إساءات بحق الإسلام.
وبعد معاودة الصحيفة نشر رسوم جديدة، ارتفعت على نحو ملحوظ الأصوات التي تمجد فعلة الإرهابيين بحق "شارلي إيبدو". لقد خسرت فرنسا في وقت قياسي موجة التعاطف التي حظيت بها في الأيام الماضية.
في أجواء عالمية تتسم بالاستقطاب الشديد، لا يمكن لوم عامة الناس على مشاعرهم. وفي منطقة كالشرق الأوسط؛ تغرق في مواجهة بين التيارات الدينية من جهة، ومع الغرب من جهة أخرى، يستحيل على القوى المعتدلة أن تقف في وجه موجة الكراهية الجارفة.
في الغرب، تكيفت المؤسسات الدينية مرغمة مع قيم الحرية في أوروبا. لكن رغم ذلك، لم يجد ممثل أعلى سلطة دينية؛ بابا الفاتيكان، مبررا لسلوك الصحيفة الفرنسية. ففي رده على أسئلة الصحفيين قال: "حرية التعبير حق، لكن هناك حدود عندما تسيء للأديان". الكنيسة الكاثوليكية كانت قد اكتوت بنار السخرية من جانب "شارلي إيبدو"، كما هي حال المئات من رجال الدين، ومن قبل السيد المسيح نفسه.
إن المواجهة مع الإرهاب، وقبل هجمات باريس، اكتست طابعا عالميا. وتشير كل المعطيات حاليا إلى أن أوروبا ستكون ساحة من ساحاتها. الخطر لا يهدد دول الشرق الأوسط فحسب؛ فألمانيا وبلجيكا وفرنسا وبريطانيا في مرمى الهجمات الإرهابية. الفوز في هذه المواجهة يتطلب كسب الرأي العام أولا، والتفاهم على خطاب عالمي ينبذ التطرف بكل أشكاله، ويحارب الممارسات العنصرية، ويعزز قيم التعايش والتسامح. من دون ذلك، ستبقى معركة الأجهزة الأمنية وحدها، وستخسرها حتما.
(الغد)