ليست المسألة الطائفية وحدها هي التي تعصف باستقرار الدول العربية المجاورة والشقيقة، وإن كانت هذه القضية من عوامل الانفجار والتفتيت والاحتراب الداخلي، إن لم يتم التعامل معها بصورة ذكية وانفتاحية، وهو ما لم يحدث في العراق أو سورية ولبنان، أو حتى اليمن أو البحرين؛ بل إدارة الشأن السياسي عموماً تلعب دوراً أساسياً في ذلك، كما هي الحال في كل من مصر وليبيا.
ربما تكون تونس المثال الوحيد الفريد، من بين الأنظمة الجمهورية العربية، الذي تجاوز محطات خطرة ومنعرجات من دون أن يقع، بينما لا تنطبق الحال على الجزائر التي تقع في قبضة العسكر، وما تزال تعاني من جروح الصراع الداخلي الدموي الطويل. أما السودان، فوضعه ليس أحسن حالاً من الدول الأخرى!
الفرق بين الأردن والمغرب من جهة، والممالك العربية الخليجية من جهة أخرى، هو أنّ الأشقاء الخليجيين لديهم ثروات وموارد هائلة تساعدهم على احتواء ردود الفعل الشعبية.
وثمّة خصوصيات لتلك الدول وعلاقتها بمجتمعاتها، ما يجعلها حالة استثنائية؛ سواء في حجم السكان أو السياسات الاقتصادية أو الإدارة السياسية، وهو أمر لا يقاس عليه بصورة عامة.
الأردن، بخلاف المغرب، كان على الدوام مهدداً وتحت الضغط. في الخمسينيات مروراً بالستينيات إلى السبعينيات، واجه تهديدات عميقة جديّة لنظام الحكم والاستقرار السياسي، ولم تبدأ حالة الاستقرار الداخلي تأخذ مداها إلاّ في الثمانينيات.
حتى عندما تعرّض النظام لهبة شعبية غير مسبوقة في العام 1989، فإن الملك الراحل الحسين، حولها إلى نقطة مضيئة في تاريخ الأردن، ونقل البلاد من مرحلة حرجة تعاني من حالة إفلاس في الخزينة وشرخ كبير في الثقة واحتقان وغضب، إلى ديمقراطية متقدمة على صعيد المنطقة بأسرها، وانتخابات نزيهة أتت بمجلس نواب؛ ما نفّس الحالة الشعبية بالرغم من الظروف الاقتصادية الصعبة.
عندما واجهت الدولة تحدّي تغيير نظام الحكم في الخمسينيات عبر دول الجوار، نجحت في اجتياز الامتحان. ولما واجهت تحدي هدم الدولة عبر العمل العسكري والفدائي في بداية السبعينيات، أثبتت قدرتها على مواجهة ذلك التحدي الوجودي. وحتى في أسوأ مراحل التاريخ الأردني بعد هزيمة 1967، استطاعت القوات المسلحة التصدي لهجوم إسرائيلي بأقل المعدات والأعداد في معركة الكرامة.
اليوم، هذه الدولة التي كانت تواجه كل تلك التهديدات الوجودية المصيرية، والتي كان يُنظر إليها بوصفها هشّة مؤقتة وضعيفة، تبدو أكثر تماسكاً وقوة واستمراراً واستقراراً من أغلب الدول العربية، وملجأ آمناً للأشقاء من دول الجوار.
وإذا نظرنا إلى التحديات أو التهديدات المطروحة، فلا يوجد منها ما يمثل خطراً وجودياً. فبرغم الحروب الطاحنة الداخلية في الجوار، فإنّ الحالة الأردنية الداخلية ليست مشابهة لتلك الأوضاع، وإذا ما نجح تنظيم "داعش" وغيره من تنظيمات في بسط نفوذه على المناطق الحدودية، وهو أمر مستبعد، فإنّ خطر تمدده غير مطروح، وأقصى ما يمكن أن يمثله أن يكون مصدراً للإزعاج والمشكلات عبر الحدود.
حتى تنامي التيار الداعشي في الداخل لا يمثل خطراً كتلك التي شهدتها الدولة في أحقاب تاريخية سابقة. وإذا ما نظرنا إلى المشكلات الاقتصادية، فهي أشبه بالمرض المزمن الذي نشأ مع ولادة الدولة، لكن تبقي أولاً وأخيراً المعادلة الداخلية والعلاقة بين الدولة والمجتمع بمثابة صمام الأمان الحقيقي والكبير، الذي يمثل مصدر الطمأنينة والحماية، وهو ما يحتاج إلى صيانة دائمة وتصليب؛ فما أثبتته التجارب العربية هو أنّ الخطر الأكبر يأتي من الداخل!
(الغد)