يعتقد ميلان كونديرا، مؤلف رواية "الخلود"، أن الرواية لا يمكن عرضها؛ إنها ليست حكاية تروى. ولا أدري إن كنت قادرا على تحديه! فبعد قراءة روايته ثلاث مرات، أحاول أن أقدمها للقارئ.
تجتاح إنييس، بعد خمسة وعشرين عاما من الزواج، رغبة جارفة في أن تعيش وحيدة. لقد اكتشفت أنها تحب الوحدة حين مرضت زميلتاها في العمل، واشتغلت بمفردها لأسبوعين في المكتب؛ إذ لاحظت باندهاش أنها تكاد لا تشعر بالتعب.. الوحدة هي غياب عذب للنظرات.
الناس يتميزون بوجوههم، تقول إنييس، واسمنا نلاقيه بالصدفة من دون أن نعرف متى ظهر في هذا العالم، ولا كيف علق بأحد الأجداد المجهولين. نحن لا نفهم هذا الاسم، ولا نعرف شيئا عن تاريخه، ومع ذلك فإننا نحمله بإخلاص مبجل، ونعجب به كثيرا، ونعتز به على نحو مضحك، كما لو أننا نحن من ابتكرناه في دفق من الإلهام العبقري. والأمر نفسه بالنسبة إلى الوجه.
يراود إنييس شعور غريب، عندما تجد نفسها في وسط الزحام؛ أنه لا يجمعها شيء بهذه المخلوقات الغريبة التي تمشي على قدمين، وتحمل رأسا فوق العنق، وفماً في الوجه. هل معنى هذا أنها قاسية القلب؟ لكن لا أحد يتصدق مثلها على المتسولين. إلا أن لكرمها مع المتسولين خلفية سلبية: إنييس تمنحهم الصدقات لا لأنهم ينتمون إلى الجنس البشري، بل لأنهم غرباء عنه، ومقصيون منه، وربما لأنهم يتنصلون منه مثلها.
ليس الناس سواسية أمام الخلود، يقول كونديرا؛ ينبغي التمييز بين الخلود الصغير، كذكرى شخص في أذهان من عرفوه، وبين الخلود العظيم، الذي هو ذكرى شخص في أذهان من لم يعرفوه.
الخلود شُغِل به الناس على أنحاء واتجاهات مختلفة. غوته، وجده في البقاء حيا بعد الموت. والرئيس الفرنسي الأسبق فرانسوا ميتران وضع للخلود مكانة رفيعة في فكره؛ وضع في مراسم الاحتفال بتتويجه رئيسا ثلاث وردات على قبور ثلاثة من المشاهير، ذلك أن الموت والخلود عاشقان لا ينفصمان، وخالف بذلك سلفه فاليري جيسكار ديستان الذي تناول وجبه إفطار في الإليزيه مع الزبالين. ولم يكن ميتران بذلك القدر من السذاجة حتى يسعى إلى التشبه بالزبالين، فذلك أمر لن ينجح فيه أي رئيس دولة.
الرؤساء اليوم تخلدهم الصور؛ فهل تغيرت خصائص الخلود في عصر الكاميرا؟ يتساءل كونديرا. ويجيب: لم تتغير في العمق، لأن عدسة الكاميرا كانت موجودة قبل اختراعها، فالناس كانوا يتصرفون كما لو أنه يجري تصويرهم من دون أن تكون ثمة كاميرا مصوبة عليهم.
(الغد)