تصريحات دو فيلبان والمؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب
د.محمد الرفاعي
15-01-2015 12:22 PM
نعم هو رئيس وزراء فرنسا السابق، وهو المطلع بعمق على ألاعيب وشيطنة السياسة الدولية ـ وهو ليس برئيس وزراء جزر الظلام أو برئيس دولة التسلط والاستبداد في بابل أو في أُوغُيرٍيت أو عمريت ـ إنه (دومينيك دو فيلبان) الذي خرج عن صمته إثر مأساة صحيفة "شارلي إيبدو" التي وقعت يوم الأربعاء في السابع من الشهر الحالي، والتي أودت بحياة 12 شخصhW ومن ثم تبع هذا العمل الإرهابي مقتل 7 أشخاص وانتحار أحد مسcولي التحقيق من ضباط الشرطة الفرنسية.
hنه رئيس وزراء فرنسا الحرة الذي احترم عقل المشاهد وعقل القارئ والمحلل معاً عندما خرج عن صمته في المقابلة المتلفزة، وفي مقالته التي نشرت في صحيفة لوموند الفرنسية، حيث اتهم من خلالهما الغرب بصنع ما وصفه بالإرهاب الإسلامي، ووصفه لتنظيم الدولة الإسلامية "بالطفل الوحشي لتقلب وغطرسة السياسة الغربية" معتبرا أن التدخل العسكري الغربي في أفغانستان والعراق وليبيا ومالي ساهم في "تضاعف أعداد الجهاديين الإرهابيين الذين كانوا بضعة آلاف وأصبحوا يعدون نحو ثلاثين ألف مقاتل".
وفي ذات الوقت وعلى الجانب الآخر من وراء المحيط الأطلسي يطل علينا الرئيس الأمريكي (باراك أوباما) ليعلن عن الدعوة لعقد مؤتمر دولي لمكافحة الإرهاب ـ وقد تناسى ـ لكنه لم ينسَ أن الولايات المتحدة الأمريكية بأجهزتها الاستخبارية والتكنولوجية وبما لديها من نفوذ عابر للدول والقارات هي التي جندت ودربت وأسست وأنشأت كلاً من حركة طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي، مع شركائها من أجهزة المخابرات في دكتاتوريات النظم المتسلطة في منطقة الشرق الأوسط.
فيما تناسى من قبله الرئيس الأمريكي (جورج بوش الابن) أن من يزرع الشوك يجني الجراح، عندما أطل على العالم عشية تفجيرات الحادي عشر من أيلول/ سبتمر2001 ليعلنها حرب دينية على الإرهاب والتطرف الإسلامي، وأن تنظيم القاعدة هو وراء الأعمال الإرهابية التي تعرضت لها نيويورك وواشنطن، فيما كان هذا التنظيم وليد الغطرسة والانحدار الأخلاقي لسياسة الولايات المتحدة في سبيل الوصول إلى قيادة العالم.
هذه الغطرسة وهذا الانحدار الأخلاقي لسياسة الولايات المتحدة في سبيل قيادتها للعالم، قد دفع بها كأداة تنفيذية من أدوات الفكر الصهيوني إلى احتلال أفغانستان بهدف القضاء على الحركات الجهادية الإسلامية التي أنشأتها هي بنفسها، كما دفع بها أيضاً إلى احتلال العراق بذريعة القضاء على أسلحة الدمار الشامل.
لكن عندما انكشفت أكاذيب وألاعيب المؤامرة الصهيوأمريكية بخلو العراق من أسلحة الدمار الشامل، انزلقت الولايات المتحدة بالكذب على الرأي العام الأمريكي والعالمي في أنها لم تحتل العراق ولكنها أتت إلى المنطقة لخلق نموذج ديمقراطي جديد في العراق، وهو الأمر الذي قامت من خلاله بحل الجيش العراقي وتقسيم العراق على أسس طائفية مذهبية وعرقية إلى ثلاثة مناطق متناحرة فيما بينها.
هؤلاء صانعي السياسة الخارجية الأمريكية ألم يخجلون من أنفسهم عندما يخاطبون العالم في أن الحرب على تنظيم (داعش الإرهابي) وعلى الإرهاب قد تستمر عشرون عاماً؟ وهو التنظيم الذي نشأ وترعرع في ظل حماقة السياسات الأمريكية في إدارتها للأزمات التي عصفت بالعراق نتيجة احتلالها له.
أيضاً هؤلاء صانعي السياسة الخارجية الأمريكية، ألم يخجلون من أنفسهم عند تناقضهم مع المبادئ التي قامت على أساسها الثورة الأمريكية ومؤتمر فيلادلفيا عام 1774م، وقيم العدالة والحرية التي رسمها الدستور الأمريكي الحالي الصادر عام 1789م؟
نعم إن هذا التنظيم الإرهابي كما وصفه (دومينيك دو فيلبان) هو الذي "يكشف الإرهاب الحقيقي ويبرئ المسلمين من هذه الأعمال الإجرامية"، وهو النتيجة الطبيعية للديمقراطية المزعومة من الولايات المتحدة، وللسياسة التي اتبعتها في هذا البلد المنكوب الذي قامت بتدميره وحصاره واحتلاله مرتين، وحل جيشه، وإطلاق يد إيران فيه، وإذكاء الفتنة الطائفية بين أبناء شعبه، تلك الطائفية البغيضة التي لم يكن الشعب العراقي يعرفها من قبل، ولم تكن سائر الشعوب العربية تعرف مثيلاتها منذ فجر التاريخ.
نعم إن هذا التنظيم الإرهابي (داعش) هو المولود الغير شرعي للديمقراطية المزعومة التي انتهجتها السياسة الصهيوأمريكية في العراق المنكوب، هذا البلد الذي قُتل وهُجر وشُرد أكثر من ثلث شعبه.
وهي الديمقراطية المزعومة ذاتها التي تسببت في قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين وتهجير أصحابها الشرعيين منذ فجر التاريخ، وهي الغطرسة ذاتها القائمة على الظلم والانحدار الأخلاقي الصهيوأمريكي الذي تسبب في إشعال عشرات الحروب في هذه المنطقة المنكوبة من العالم.
وهي الغطرسة ذاتها التي يطالعنا بها رئيس وزراء إسرائيل من باريس، ويعلن بكل وقاحة أنه قادم من العاصمة الأبدية لإسرائيل (القدس)، وأنه قادم للمشاركة والتضامن مع إعلان الحرب على التطرف الإسلامي، وهو اليميني المتطرف الذي يعلن من باريس عن دعوته لليهود الفرنسيين بالهجرة إلى أرض فلسطين المغتصبة.
إن هذا الخطاب البغيض الذي حمله رئيس وزراء إسرائيل إلى باريس، والمفعم بروح الكراهية ليس بالغريب أن يصدر عن هذا اليمني المتطرف وهو يعلم جيداً أنه قاتل الأطفال، ولم ينسى في ذات الوقتً أنه قتل 2500 إنسان مدني ودمر البنية التحتية وهدم آلاف المنازل في قطاع غزة.
وعلي هذا الأساس، وبعيداً عن النفاق السياسي والغزل الدبلوماسي ولعبة العلاقات الدولية القائمة على تناغم المصالح، فإذا ما أريد لهذا المؤتمر أن يخطو بثبات نحو مكافحة الإرهاب، فلا بد من المكاشفة والمصارحة، عن طريق الوقوف على أسبابه، وعلى البيئة الدولية الخصبة والمناخ المناسب لنموه.
ذلك أن مكافحة الإرهاب لن يتحقق عن طريق خلق التناقضات على الأرض بين بني البشر، وكيل الاتهامات إلى الأديان السماوية عموماً، وإلى الإسلام بشكل محدد، فبدلاً من هذه الشعارات الفضفاضة التي خرجت من رحم الأنظمة الاستبدادية بدعم من الأنظمة المتغطرسة، وهي التي خلقت في ذات الوقت البيئة الخصبة للنزوع نحو الإرهاب نتيجة لانتشار الظلم والتخلف وسياسة الإقصاء، وغياب العدالة الاجتماعية، وانعدام تكافؤ الفرص بين الأفراد والمجتمعات الإنسانية.
هذا ناهيك عن أن خلق الأزمات وإذكاء الفتن الدينية والطائفية بين أتباع الديانات، ومن ثم تجييش الجيوش وصرف مليارات الدولارات لمحاربة مخرجات تلك السياسات المتعجرفة لن يجدي نفعاً في اجتثاث الإرهاب.
إن تحقيق العدالة في هذه المنطقة التي توالت عليها النكبات منذ بداية القرن العشرين إلى يومنا هذا هو السبيل الأنجع، وهو الكفيل بالقضاء على جذور الإرهاب، ولا يمكن أن يتحقق هذا الأمر دون إيجاد حل عادل للقضية الفلسطينية بعيداً عن مبدأ ازدواجية المعايير، وهو الأمر الذي أعلنه جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين حفظه الله، ونبه العالم ودعا إليه في العديد من خطاباته في الكونجرس الأمريكي وفي عدد من برلمانات العالم وفي خطب العرش السنوية، وفي لقاءات جلالته في المعاهد العالمية وفي جمعيات الشؤون الدولية والدبلوماسية، وفي سائر اللقاءات التي شرفها جلالة الملك بما لديه من حنكة وإطلاع في سائر الشؤون الدولية والإقليمية.