يجب أن نعترف أنّ عملية البحث العلمي وخاصة جمع البيانات والمعلومات أصبحت سهلة وغير مكلفة وعالمية نسبياً نتيجة التقدم الهائل وغير المسبوق في مجال تكنولوجيا المعلومات والإتصالات وإنتشار قواعد بيانات المجلات العلمية وخاصةً الإلكترونية منها وعلى نطاق واسع لكن المشكلة الرئيسية تكمن في أنّ هذا التقدم الهائل له ثمن كبير جداً حيث ان السرقات العلمية وسرقة جهود الآخرين أصبحت شائعة جداً وتحتاج الى اساليب ومهارات متقدمة للكشف عنها وإتخاذ الاجراءات اللازمه حيالها. وادى ذلك الى انتشار ثقافه Copy and Paste تحت مظلة "مين قارئ ورق".
لقد وصل حد الاستهتار بالبحث العلمي ان العديد من أساتذة الجامعات أصبحوا يتلقون اتصالات من مكاتب محلية ومن دول عدة يقوم أصحابها بعرض خدماته البحثية والعمل على إعداد أبحاث علمية رصينة مقابل ثمن مادي يُتفق عليه بين الطرفين على أنّ يشمل ذلك الالتزام بنشر البحث في مجلة علمية عالمية محكمة ومفهرسه من الطراز الاول. الكارثة أنّ هذا السلوك والاتجاه اصبح يلقي القبول والايجاب لدى البعض في الوسط الأكاديمي لا بل اصبح يعتبر ويدخل ضمن (الشطارة) لدى البعض.
إنّ هذه الاعمال والسلوكيات سوف تؤدي الى تدمير البحث العلمي لدينا والإجهاز على ما تبقى منه في جامعاتنا الوطنية مما سيساهم في دفع عجلة البحث العلمي الى الخلف وليس الى الامام. إنّ إستمرار هذه السلوكيات قد يدفع بعض الجامعات الوطنية إلى إعادة التفكير جدياً بالمنهجيات والآليات المتبعة في الترقيات الأكاديمية وذلك للتأكد من أصالة الأبحاث وجديّتها هذا مع العلم أنّ الأصل في البحث العلمي والحياة الأكاديمية برمتها يفترض وجود النزاهة والأمانة العلمية بالفطرة!
أما في حالة تزامن هذا الوضع مع التخفيض المقترح لموازنات البحث العلمي في جامعاتنا الوطنية فهذا يعتبر دعوة مفتوحة لدفن البحث العلمي سريعاً ودون مواربةً. البحث العلمي لأساتذة الجامعات يمثل حصيلة تفكير خلاق ومُبدع ورفيع المستوى بعد سنوات طويلة من الدراسة والتحليل والخبرة العلمية والعملية لتكون نتيجتة أعمال بحثية راقية تساهم في دفع حصيلة المعرفة في كل حقل من حقول المعرفة كلُ حسب مجاله.
الأصل أنّ يتم إستثمار الجامعات كمراكز بحث علمي مرموقة قادرة على قيادة دفة المعرفة في كل بلد وبالتالي المساهمة في دفع عجلة التنمية بجميع أشكالها وخاصةً الإقتصادية والإجتماعية والتكنولوجية منها. على الرغم من أن هناك العديد من الجامعات الوطنية إستطاعت أن تحقق قفزات نوعية في البحث العلمي ومجالات معرفية متعددة إلا أن الحافز الأول للبحث العلمي في جامعاتنا الوطنية ما زال هو الترقية العلمية للتخلص من شبح يلاحق كل من ينهي درجة الدكتوراة ويلتحق في المجال الاكاديمي إضافة الى فتح الطريق أمام الأكاديميين للتدرج في السلم الإداري والوصول الى مواقع متقدمة في قطاع التعليم العالي سواء في القطاع الخاص او العام.
قد يظن البعض أنني متشائم حيال البحث العلمي لدينا أقولها وبكل صراحه انا لست متشائماً ولكنني واقعي واتحدث عن ما يحدث فعلياً من أجل العمل على إتخاذ الاجراءات اللازمة لوقف الانحدار القائم في البحث العلمي سواء من حيث المضمون او الكم او النوع او المستوى لكي نحافظ على ما انجزناه. إنّ مصدر القلق الاساسي لديّ هو اذا لم تكن جامعاتنا الوطنية حاضنة البحث العلمي وتقوم بارقى المشاريع البحثية وحسب الاولويات الوطنية فمن سيقوم بهذه المهمة اذن؟ أترك الجواب لكم !