ماذا بوسع الحكومة أن تفعل؟
عماد الحمود
11-04-2008 03:00 AM
التكليف الملكيّ للحكومة تقديمَ حلول فوريّة لكبح الاسعار و"دعم" ذوي الدخل المتدني من التضخّم والارتفاع المستمر، يكشف (أي التكليف) مدى تلمّس جلالة الملك لخلل كبير وفجوة ضخمة بين مستوى الدخول وبين ارتفاع الأسعار والتضخّم الذي وصل، بحسب الارقام الحكوميّة، إلى 10,6% متجاوزاً التقديرات المسبقة عند 8 إلى 9 بالمئة حين تقديم الموازنة.
المهم، الآن، هو اجتراح حلول يمكنها أن تخفّف من وقع صعود الأسعار أمام الحكومة، شريطة التنفيذ الفوريّ؛ وذلك بعد دراسة مستفيضة دون النظر إلى الخلف لمن يتضرر من التجّار وأصحاب المصالح، هذا إذا كنّا نريد دعم مصالح المواطن الفقير أوّلاً. وهنا، بعض الخطوات التي يمكن للحكومة أن تستأنس بها:
1-إعادة النظر في سياسة تسعير المحروقات؛ فالسياسة الحاليّة ليست تحرير سوق المشتقّات النفطيّة، وإنّما سياسة تحرير أسعار النفط صعوداً، ففي الوقت الذي يكلّف الملك الحكومة النظرَ في إجراءات سريعة، تعلن لجنة السوق أسعاراً جديدة تزيد عن أسعار الشهر الماضي. والحلّ هنا ليس في الأسعار وإنّما في تحرير سوق الاستيراد، وليس كما فعلت الحكومة في تمديد احتكار شركة المصفاة عاماً آخر وتفتيتها لتتحكّم (الحكومة) بالسوق بواسطة أذرعها من الشركات الناتجة، وهو ما لا يغيّر شيئاً من الواقع الحاليّ سوى في تعدّد الأدوات. وحتّى الساعة لا نعلم بأسعار شراء النفط ولا بكمياته ولا بالمنح النقديّة المسماة باسمه.
2-لا يمكن لأيّ حكومة إيقاف تيّار الأسعار الجارف في الاسواق إلّا عبر تشريعٍ يحدّد هامش الربح للموادّ الغذائيّة الأساسيّة، ويضمن استمرار تزويد الأسواق بها، ولا بأس من توجيه لجان مراقبة الأسعار إلى مخالفة كلّ تاجر يبالغ في هامش الربح، وذلك بعد الإطّلاع على قوائم الأسعار، ولا سيّما تلك المتعلّقة بالموادّ الغذائيّة، شريطة تعديل قانون التجارة بما يسمح بالمساءلة بوجود مندوبين عن غرف التجارة والنقابات المتخصّصة. والجدير ذكره، في هذا المقام، أنّ روسيا بصدد إصدار مثل هذا التشريع لكبح آليات التسعير دون توجيه؛ وكانت إحدى دول الخليج أجبرت سلسلة مطاعم عالميّة على إعادة النظر في تسعيرة جديدة بالغت فيها؛ لأنّ النسبة المئويّة للزيادة فاقت النسب المثيلة، وهذا إجراء قانونيّ لو طُبّق أو أعْلِن عنه لما اندفع تجّار جملة وتجزئة إلى دفع أثمان السلع صعوداً عندنا.
3-ليس صحيحاً دائماً أنّ على الحكومة زيادة الإنفاق العام من أجل دفع العجلة الاقتصاديّة لتوليد الوظائف وزيادة النموّ؛ فعندما يكون التضخم عالياً لا بدّ للحكومة من أن تضبط نفقاتها منعاً للهدر الذي يلمسه الناس كلّ يوم وفي كلّ المناحي، ممّا يدحرج كرة الضرائب المقبلة علينا في السنوات القادمة حين نريد تمويل هذه المشاريع وتغطية كلفة إدامتها. إلى ذلك، ينبغي التوقّف فوراً عن بيع الأراضي والمقدّرات ومواقع المؤسسات السياديّة في كلّ المحافظات، بما فيها العقبة؛ لأنّ عوائد عمليات البيع لا تصنع مشروعات منتجة قادرة على توليد فرص عمل، فهي في مجملها عقاريّة.
4-ولعلّ أمانة عمّان الكبرى وسلطة منطقة العقبة الاقتصاديّة الخاصّة نموذجان صارخان للإنفاق التبديديّ والعبثيّ؛ فالأمانة دخلت وتنوي الدخول في مشروعات ليست من صلب عملها، فالنقل العام سيطرت عليه ولم تفلح في انتشاله من أزمته المستفحلة والمزمنة، ودخلت في مشاركات لبناء مواقف عامّة للسيّارات، مع أنّ بإمكانها تأسيس قانون يفتح باب الاستثمار في هذه الخدمة بما يسمح بالفائدة للطرفين. وذهبت، أيضاً، إلى هدم مبنى شركة الدخّان لبناء "دارة فنون" مع أنّه كان بإمكانها بناء واحدة تليق بالاسم الذي تحمله في موقع افضل بعيداً عن أزمة المرور. كما ستدخل في بناء مجمّع وزارات ودوائر على رغم أنّ هذا ليس في صلب عملها وبكلفة 1,4 بليون دينار بطريقة الـ BOT أو التأجير التمويليّ، ممّا يعني كُلَفاً إضافيّة سترهق الموازنة وسترتّب ديوناً جديدة. يبقى أنّ قوانين الأمانة صِيغت لتفلت من مظلّة الحكومة المركزيّة ذات البيروقراطيّة والترهّل؛ والتجربة اثبتت، منذ عام 1986، أنّ القوانين تضمن الإفلات والتهرّب من الرقابة الحقيقيّة والمحاسبة والاستقلال بقرار عمّان العاصمة على هوى كلّ أمين جديد. وأمّا في العقبة فحدّث ولاحرج عن مستوى الهدر والإنفاق وتفويض الأراضي بأسعار "رمزيّة"، ويمكن الاستدلال على ذلك من أنواع السيّارات التي يستعملها مجلس المفوضيّة، فضلاً عن المؤتمرات والاستقبالات، والتسهيلات والمحاباة التي نتحفّظ عن الحديث فيها خشية الإحالة إلى المحكمة.
5-ما يمكن أن يساعد التجّار على العمل في المرحلة المقبلة إعفاؤهم من غرامات ومتأخّرات ضريبتيّ الدخل والمبيعات، وإبقاء الضريبة الأصليّة؛ من أجل تشجيعهم على تسديد ما ترتّب عليهم في المرحلة الماضية، وتحديث المعلومات المتعلّقة بتجارتهم للمرحلة المقبلة؛ أي توفير قاعدة معلومات شاملة ودقيقة عن تجارتهم وأعمالهم، وهذا من شأنه زيادة الواردات الضريبيّة وتحسين وسائل التحصيل وطرقه.
6-يبقى التخوّف قائماً من تناول موضوع الخبز، لكنّ التشوّه في قائمة المستفيدين من الدعم القائم عميق وثقيل. فالعمّال الوافدون والمقيمون من طلاب ورعايا عرب وأجانب، وغيرهم كثر، ليسوا بحاجة إلى دعم؛ فالأوْلى هم الفقراء المعدَمون. ويمكن صرف البدل لهم شهريّاً حتّى لا يبدّدوه على أمور حياتيّة قد لا تكون ذات أولويّة في هذة المرحلة، وعلى أساس عدد أفراد الأسرة دون النظر إلى التدقيق في الدخل، حتّى لو زادت ميزانيّة الدعم فسوف يموّلها فرق سعر البيع؛ وهذا من شانه أيضاً قطع الطريق على بائعي الطحين المدعوم لمربي المواشي.
7-تسرّبت أنباء عن نيّة الحكومة فرضَ ضرائب جديدة لتمويل عجز الموازنة، والصواب أنّ على الحكومة تغطية العجز من خفض حقيقيّ للنفقات، يمنع صرف أيّ مبلغ ليس ضرورياً. فالحكومات التي تشتري [بــ 22 مليون] سيارات في سنة واحدة لن تستطيع كبح النفقات وتفريخ الوزراء والنوّاب والأعيان والمدراء وكبار الموظّفين المتقاعدين، ولن تسطيع كبح الأسواق والسيطرة على العرض والطلب؛ فآليّات السوق أقوى من أيّة قرارات وتعليمات. وتجارب الدول خير هاد ٍ لنا، فمَلء رفوف المؤسّسات الاستهلاكيّة لا يعني حلّ مشكلة الأسعار وغلاء المعيشة؛ فالحكومة عاجزة عن ضبط نفقاتها، فكيف لها أن تحلّ أزمة مستفحلة؟ فالمواطن بصورة عامّة تمكّن من حصر نفقاته وضغطها واستبعاد ما لا يلزم في هذه المرحلة الصعبة على الجميع. والحكومة، هنا، بإمكانها إلغاء السفر وتخفيض الوفود وأعداد أفرادها وشطب المشاركات ورحلات العمرة واختصار بعثات الحجّ، وكذلك إلغاء الاجتماعات والاستقبالات والزيارات والتوقّف عن تعيينات مدراء من المتقاعدين في دوائر وجهات اخرى. كذلك، من باب أوْلى التوقّف عن الاستملاكات لهذا العام أو على الأقل حصرها في نطاق ضيّق جدّاً وتوفير أموالها لبنود اخرى في الموازنة.
8-قطاع التعدين يشهد طفرة غير مسبوقة محليّاً وعالميّاً، والحكومة مطالبة بتحصيل حقّ الأردنيّين في "نفطهم"؛ فالرسوم الحاليّة تُفرض على الطنّ، والمطلوب أن تُجبى على الثمن، فهي 1,4 دينار على الفوسفات الذي يُباع بنحو 330 دولاراً للطنّ الواحد، بينما كان سعره 70 دولاراً، أمّا البوتاس فالضريبة عليه لا تتجاوز 8,5 دينار وسعره قفز من 120 دولاراً إلى ما يزيد على 600 دولار للطنّ الواحد؛ وهذا يعني أنّ الحكومة تخسر عوائد من شأنها تغطية عجوزات كبيرة إذا علمنا ان إنتاج الفوسفات يزيد على أربعة ملايين طنّ سنوياً والبوتاس نحو 1,8 مليون طن.
9-تحتاج استراتيجيةُ تأمين المواد الغذائيّة الأساسيّة للمواطنين بأسعار تتوافق مع الظروف المعيشيّة السائدة، إلى حزمة قرارات جريئة؛ وذلك بإلغاء كلّ ضرائب التصنيع والاستيراد والمبيعات والدخل ولو بصفة مؤقّتة لمدّة سنتين مثلاً، من أجل خفض حقيقيّ للأسعار، شريطة أن يقوم التاجر ببيان الكلفة الحقيقيّة مع هوامش أرباح مقبولة ومعقولة، وهذا ما يدعو إلى رفع الحماية الإغلاقيّة عن بعض الموادّ ووقف التصدير أو تقنينه بكوتات، وذلك بعد دراسة الأسواق والأسعار، والمثال بجمارك الدجاج والحوم المجمدة.
يبقى ضرورياً تفعيل شراكة القطاعين العامّ والخاصّ، وإجراء إنتخابات غرف التجارة والصناعة؛ لتجديد دمائها ودفعها إلى العمل ميدانيّاً عوضاً عن [التفنّن] والاكتفاء بإصدار البيانات؛ فهذه عاجزة عن إعداد دراسات للأسواق، وهو في صلب عملها من أجل توجيه التجّار والتأثير على السياسات للمصلحة العامة، فالمعلومات شحيحة والحقائق شبه غائبة وعائبة ومعيبة.