تمثل "غزوة باريس" (الاعتداء على الصحيفة الفرنسية "شارلي إيبدو"، وقتل اثني عشر شخصا فيها وجرح عشرة آخرين)، استعادة لروح "القاعدة" وفكرتها القائمة على عالمية الجهاد. وربما تكون ردّا على "داعش"؛ التنظيم العراقي-السوري للقاعدة، والمنشق عن مركزها (أسامة بن لادن، ثم أيمن الظواهري) وفكرتها في النزعة المحلية. ورغم أن "داعش" تخلى عن فكرة دولة العراق والشام، وأعلن نفسه "الدولة الإسلامية" للعالم كله، ردا على نموذج "القاعدة" العالمي، إلا أنه يبدو واضحا أن "داعش" ما يزال عراقيا أولا، وسورياً بالدرجة الثانية (تنازعه في سورية "جبهة النصرة")، في مقابل الفكرة والخبرة العالمية للقاعدة.
كانت العالمية فكرة أسامة بن لادن، أو ارتبطت به على أي حال. فقد تخلى في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي عن فكرة الجهاد في أفغانستان، رافضا مبدأ الاقتصار على ذلك البلد وعدم تجاوزه في الاهتمام والعمل. والواقع أنها فكرة جديدة على الجماعات المسلحة التي ارتبطت تاريخيا ببلد أو قضية محددة، وربما تشبهها مبادرة غيفارا في الستينيات؛ عندما انتقل من كوبا إلى أفريقيا ثم أميركا اللاتينية، محاولا إنشاء مقاومة "أممية" ضد الرأسمالية.
ظل ابن لادن وحيدا في فكرته، محاولا تطوير مشروعه في اليمن والبوسنة والهرسك والدول الإسلامية السوفيتية "سابقا"، ثم أوى إلى السودان مستكشفا أفريقيا، ليعود إلى أفغانستان مرة أخرى في العام 1996، بفكرة وتنظيم جديدين ومختلفين عن المرحلة والأفكار السابقة.
لم يرتبط ابن لادن بحركة طالبان، وإن تعاونا معا. إذ كان لكل طرف وجهته وطريقته في العمل والتفكير. ووافق تنظيم "الجهاد" المصري أخيرا على الاندماج في المبادرة، بعدما ظل على مدى خمسة عشر عاما سابقة شريكا مستقلا مع ابن لادن؛ فقد كان "الجهاد" بقيادة أيمن الظواهري لا يرى مجالا للعمل يتجاوز مصر، وأُعلنت الجبهة العالمية للجهاد في العام 1998. كانت، كما يبدو بوضوح، واحدة من تجليات العولمة وتطبيقاتها.
اليوم، يبدو ثمة نماذج عدة تفسيرية لـ"غزوة باريس"، لا تكفي المساحة المتبقية إلا لعرضها كعناوين. ولعله يكون في الغد عودة تفصيلية إليها:
1 - انكسار "الربيع العربي" أطلق موجة من العنف الجديد، وردّ الاعتبار للقاعدة بعدما انحسرت وابتعدت عن الأضواء، بفعل الأحداث التي جرت منذ أواخر العام 2010 في دول عربية عدة.
2 - هي حرب بين "القاعدة" و"داعش" لحصر هذه الأخيرة في العراق، وتظل "القاعدة" محتفظة بامتيازات العالمية.
3 - من التطرف إلى الكراهية؛ أي تطور التطرف إلى حالة من الكراهية والشعور بالعزلة، وعدم القدرة على الاندماج.
4 - "الذئب المتوحد"؛ جيل جديد من العنف الفردي، أو تطور العنف من الجماعاتية إلى الفردية.
(الغد)