" إننا على متن سفينة تغرق"؛ هكذا لخّص عدنان أبو عودة، وضع الأردن، في تصريح مفاجئ ل " القدس برس". وهو مفاجئ لأنه جاء من دون سياق؛ فلم يكن أبو عودة يحاضر أو يتحدث في مقابلة تلفزيونية الخ.
وهذا مما يزيد من جدية تصريحه الذي يبدو وكأنه مقصود للتحذير، وليس من الحكمة، بالطبع، تجاهل هذا التحذير؛ فهو صادر عن مثقف وسياسي مرموق ومجرّب، وسبق له أن أشغل مناصب استخبارية وسياسية رفيعة، والأهم أنه كان مستشارا مقربا من الملك حسين، لسنوات طويلة.
هل تغرق سفينتنا حقا؟
المفارقة أن الأوساط السياسية والفكرية العربية، غيّرت، بعد مرحلة ما يسمى " الربيع العربي"، نظرتها إلى الدولة الأردنية؛ فهذه الدولة التي طالما استقرت النظرة إليها ك " دولة مصطنعة" و" هشة"، أظهرت أنها أكثر تماسكا ودينامية وصلابة من سواها من الدول العربية، بما في ذلك الدول الخليجية.
وعلى سبيل المثال، يرى سياسيون ومحللون عرب ذوو وزن ولا يتفقون مع السياسات الرسمية الأردنية، أن الأردن أكثر قدرة من السعودية على مواجهة تهديد "داعش"، وفي الواقع أن الأردنيين هم الذين يحمون الحدود الأردنية ـ السعودية، ويؤمنونها.
وأستطيع القول، باطمئنان، إن حزب الله ـ الذي تحوّل إلى قوة اقليمية أساسية، طوّر، في السنوات الأربع الأخيرة، مقاربة جديدة نحو الدولة الأردنية، ترى في استقرارها عاملا إيجابيا على مستوى المنطقة، وفي مجال المواجهة مع التكفيريين، أما رئيس مجلس النواب اللبناني، نبيه بري، فيرى أن " معنى القومية العربية في الأردن، يكمن في الوطنية الأردنية التي حافظت على البلد والدولة في خضم الأعاصير الإقليمية والدولية".
ابراهيم الأمين، رئيس تحرير صحيفة " الأخبار اللبنانية المقربة من حزب الله ودمشق، يكتب، في 5 كانون الثاني 2015، أن الأردن ينافس تركيا على دورها الإقليمي! وهناك تسريبات تقول إن اسقاط الطائرة المقاتلة الأردنية في الرقة، تم بدعم تركي. وإذا كنا لا نملك وسائل التحقق من ذلك، فإنني على يقين من أن ملف الطيار الأردني الأسير، معاذ الكساسبة، بين يدي رجب أردوغان. وهو سيستخدمه لتحجيم الدور الأردني في التحالف الدولي ضد الإرهاب.
أقضي، مؤخرا، الكثير من الوقت في بيروت، لإجراء مقابلات تلفزيونية والحوار مع قوى وتيارات سياسية لبنانية وعربية، وألمس تزايد الاهتمام بمعرفة الأردن ومجتمعه ودولته وحركته الوطنية، لدى حزب الله والتيار الوطني الحر، ولدى المثقفين اللبنانيين، والمعارضة السعودية والبحرينية وأنصار الله الحوثيين؛ وهؤلاء الأخيرون لا يخفون إعجابهم الخاص بالأردن، فكل منهم له قريب تلقى العلاج في بلدنا، وعاد بانطباعات لطيفة عن الأردن والأردنيين.
هل تغرق السفينة حقا؟ ربما! فالقائل بذلك من وزن ثقيل لا يمكن إهمال توقعاته؛ لكن ما يدهشني هو السبب الرئيسي الذي بنى عليه أبو عودة، استنتاجه؛ فهو يرى أن تزايد الأعباء الضريبية التي تفرضها الحكومات الأردنية، سيؤدي إلى انهيار الاقتصاد الأردني في المدى المنظور.
ولا يمكنني أن أقبل هذا السبب تحديدا؛ فالأردن هو جنّة ضريبية بالنسبة للبرجوازية بكل شرائحها ـ الكبيرة والمتوسطة والصغيرة ـ بينما يعاني الكادحون ـ وخصوصا في المحافظات ـ من البطالة والتهميش الاقتصادي، لا من الأعباء الضريبية.
في الواقع إن اصلاح المالية العامة ليس ممكنا من دون زيادات مؤثرة في هيكلية الضريبة العامة على الدخل والأرباح والأرباح الرأسمالية ـ بما فيها العقارية ـ والأوراق المالية؛ بالإضافة إلى استيفاء رسوم اجتماعية من البورجوازيين، فأصحاب المنازل فوق ال200 متر والفلل الخ ينبغي أن يدفعوا رسوما توازي تمتعهم بالمساحات والخدمات، كذلك الأمر بالنسبة للسيارات الفارهة والسلع الفاخرة، في مقابل تخفيض الضريبة على المبيعات بالنسبة للسلع والخدمات الأساسية.
المفارقة التي انتجتها السياسات النيوليبرالية في بلدنا هي نفسها التي حدثت في كل مكان عصفت به تلك السياسات الوحشية: قطاع عام يراكم المديونية ويغرق في العجز وقطاع خاص يراكم الثروات الفاحشة! والخلاص من هذه المعادلة التي تسحق الفقراء، ممكن إما بسيطرة الدولة على العملية الاقتصادية أو بفرض هيكل ضريبي تصاعدي وشامل، يحقق العدالة الاجتماعية، ويؤمن الأموال اللازمة للخزينة لتغطية الرواتب والخدمات.
لا أريد استنتاج باطن اثني من كلام أبو عودة حول " أن الضرائب والرسوم وكلف المعيشة المرتفعة، فرضتها الحكومات المتعاقبة لتغطية العجز في رواتب الموظفين؛" ولكنني أذكّر، فقط، بأن أكثر من نصف هؤلاء الموظفين هم ضباط وجنود القوات المسلحة. وفي وضع الأردن الخاص، فإن المؤسسة العسكرية هي التي تحقق فائض القيمة الذي تستغله النخب السياسية والاقتصادية، على شكل منح ومساعدات، وهي التي تضمن الاستقرار للاستثمارات المالية والعقارية والخدمية التي تدرّ مئات الملايين على البرجوازيين. في الأخير، ليس لدى الأردن، حاليا، أي ميزة تنافسية سوى قواته المسلحة. أما في ما يتصل بالإدارة المدنية، فإن حجمها هو الأقل بين البلدان العربية، وكفاءتها ـ رغم كل ما تعانيه من عيوب ـ هي الأعلى على المستوى العربي.
مشكلات الأردن الكبرى لا تتعلق بضريبة الدخل، أو بتمويل رواتب الموظفين والجنود، بزيادة " المكوس" المفروضة على البرجوازيين؛ فهي، كما قلنا دون المستوى المطلوب ماليا واجتماعيا، كما أنه ليس هناك أي أساس لما قرره أبو عودة من أن جولات الملك عبدالله الثاني، هدفها حفظ المملكة إزاء مشروع تقسيم المنطقة؛ فالذي يحافظ على الدولة الأردنية، ويحول بينها وبين السقوط أو الانقسام، لا الولايات المتحدة ولا سواها، بل فعالية الوطنية الأردنية ( أو ـ إنْ شئت ـ العصبية الأردنية) التي أثبتت التطورات مدى تماسكها وصلابتها ومرونتها معا؛ وقوة الدولة الأردنية ناجمة عن قوة عصبيتها ، لا عن " حكمة السياسيين"؛ لقد رأينا كيف أن جماهير المحافظات المهمّشة المُفقرة الغاضبة القادرة، تراجعت عن حراكها المشروع حين أدرك العقل الجمعي الأردني أن الدولة الوطنية الأردنية قد تتعرض للخطر.
لكن النخب الحاكمة سوف تخطئ خطأ فاحشا إنْ هي اعتقدت أن الملفات التي طرحها الحراك الأردني قد طُويَت؛ لقد تم ارجاؤها لا غير إلى حين تجاوز العواصف الإقليمية؛ وسيكون من الحكمة، المبادرة إلى التعامل الايجابي مع هذه الملفات في فترة الهدوء الداخلي المؤقتة؛ وهذه الملفات ثلاثة هي : (1) دسترة فك الارتباط مع الضفة الغربية التي أصبحت، سياسيا وقانونيا، الأرض الوطنية للدولة الفلسطينية، (2) اتخاذ اجراءات شاملة ومتزامنة بشأن قضايا الفساد الكبرى، واستعادة أموال الخزينة، واقصاء الفاسدين، واستعادة سيطرة الدولة على القطاعات الاستراتيجية، (3) الشروع في تنفيذ خطة تنمية شاملة جدية في المحافظات على أساس الديموقراطية الاجتماعية. هذه الملفات عالقة، ولن تُنسى.
وأذكّر بأن المطالب المتعلقة بما يسمى الاصلاح السياسي كانت على أجندة الإخوان المسلمين وحلفائهم، لا على أجندة الحراك الأردني الذي يرى في ديموقراطية المحاصصة، صيغة ناعمة للوطن البديل.
الخطأ الاستراتيجي الأكبر الذي ارتكبته السياسة الرسمية الأردنية يتمثّل في عملية تصنيع ظاهرة اللجوء السوري؛ لقد جرى، منذ العام 2011، استجلاب اللاجئين السوريين بكل الإغراءات والتسهيلات، لأغراض سياسية ومالية قصيرة النظر، وفي سياق الضغط على النظام السوري. وكانت هذه السياسة الحمقاء نابعة من تقدير ساذج بأن ذلك النظام سوف يسقط سريعا. ولطالما حذّرنا، بكل الوسائل ومن دون جدوى، المسؤولين الأردنيين من مغبة اتباع سياسات واتخاذ اجراءات نابعة من وهم امكانية سقوط نظام يتمتع بتأييد داخلي ودعم دولي واقليمي، كالنظام السوري. وهنا يمكننا الحديث، متفقين مع أبو عودة، عن نقص الخبرة والحكمة. الآن، أصبح علينا أن نخطط لاستضافة دائمة للجوء جديد لما لا يقل عن مليون لاجئ سوري لن يعودوا إلى ديارهم.
الخطأ الاستراتيجي الثاني يتمثل بالفكرة البائسة القائمة على محاربة الإرهاب المتطرف بالإرهاب المعتدل؛ بالتجربة، تبين أن الاتجاه العام لل" معتدلين" الذين درّبناهم أو سلّحناهم هو الاتجاه نحو المنظمات التكفيرية أو الفشل في الوقوف بوجهها؛ إن مقاربة الاشتباك المزدوج مع النظام السوري والتكفيريين الإرهابيين في الوقت نفسه، هي مقاربة غير واقعية، ومآلها تعزيز مواقع الإرهاب.
الخطأ الاستراتيجي الثالث يتمثل في دعم فصائل طائفية وارهابية في العراق، حليفة ل " داعش"، مما سهّل سقوط الموصل، وتوسّع الظاهرة الإرهابية التي تهدد المنطقة.
الإرهاب ظاهرة معقدة لا يمكن تفسيرها بالاستبداد كما يرى أبو عودة؛ الإرهاب ناجم عن فشل التنمية، وفشل الثورة الثقافية في العالم العربي، وتمويل التطرف والطائفية بالبترودولار، ونزعة الولايات المتحدة وبعض الأنظمة الإقليمية، لاستخدام الإرهابيين لتحقيق أغراض سياسية. ولذلك، فإن مقاومة التطرف في الداخل يستلزم حفز الهوية الوطنية العلمانية، واحداث تغيير جدي في المناهج والثقافة والإعلام، والشروع في خطة تنموية تنهي التهميش الاقتصادي الاجتماعي.
هل ستغرق السفينة؟
كلا..
سنحميها ونصلح ثقوبها ونوجهها نحو شاطئ الأمان.