هنري كيسنجر إذ يستحضر كارل ماركس
عريب الرنتاوي
09-04-2008 03:00 AM
في مقالته المثيرة للجدل ، أشار هنري كيسنجر إلى ثورات ثلاث تجري في الوقت ذاته ، في أنحاء مختلفة من العالم: (1) أوروبا ، حيث تتخلى الدولة القومية أو الدولة ـ الأمة عن بعض وظائفها وصلاحياتها السيادية لصالح إطار "فوق - دولاتي" أو (2) Supra - State في العالم العربي والإسلامي حيث تفعل الدولة القومية ، أو ما يسمى الدولة القومية ، الشيء ذاته ، مرغمة وغير طائعة كما في الحالة الأوروبية ، وتحت ضغط لاعب غير "دولاتي" أو Non - State Actor ، يتمثل في الأصولية الإسلامية الناهضة التي لا تعترف بشرعية الدولة ولا القانون الدولي... (3) الثورة الثالثة ، وتتمثل في انتقال مركز ثقل القرار الدولي من "الأطلسي" إلى "الهادي" و"الهندي" ، مع بروز كل من الصين والهند واليابان كأقطاب دولية كبرى ، اقتصاديا وسكانيا وعسكريا.
تخلي "الدولة القومية"عن بعض وظائفها السيادية لصالح الهوية الجمعية الجديدة للاتحاد الأوروبي ، ليس ثمرة حربين كونيتين أو خلاصتهما فحسب ، بل هو تعبير عن نضج مجتمعاتها وتجذّر آليات تطورها الديمقراطي كذلك ، لكأن "الرأسمالية" الأوروبية تعيد الاعتبار لبعض نظريات كارل ماركس عن انتفاء الحاجة للدولة في الطور الأعلى من الشيوعية ، ونبوءته القائلة باضمحلال الدولة في نهاية المطاف ، أو لكأن هنري كيسنجر الذي قارع الشيوعية طويلا ، يعيد إحياء تراث بعض آبائها المؤسسين.
أما اضمحلال دور الدولة في بعض بلدان الشرق الأوسط وأفريقيا والعالم الإسلامي ، فمرده كما قال كيسنجر في مقالته إياها ، يعود إلى اندراج نشأة هذه الدولة في سياق توزيع الغنائم بين المنتصرين في الحرب العالميتين الأولى والثانية ، من دون مراعاة لحدود القوميات والإثنيات واللغات والطوائف والأديان ، الأمر الذي أفضى إلى ولادة مخلوقات مشوّهة في الغالب ، يصعب أن يطلق على الكثير منها تسمية: دولة الأمة ، أو Nation - State.
ونضيف إلى "عوامل النشأة" التي تحدث عنها كيسنجر ، عوامل أخرى تتصل بإخفاق "الدولة الحديثة" في إنجاز وظائفها الطبيعية الأساسية ، من إنجاز الاستقلال الحقيقي وصيانته ، إلى تحقيق التنمية البشرية بأبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الشاملة ، الأمر الذي وفّر تربة خصبة لانتشار عوامل اضمحلال الدولة ، والعودة بمجتمعاتنا إلى مرحلة "ما قبل الدولة" ، واضطرار شعوبنا إلى الاحتماء بهوياتها الفرعية ووحداتها الاجتماعية - السكانية الأصغر ، والاصطفاف خلف أحزاب ومليشيات وفصائل وكتائب وجيوش ترفع شتى الرايات إلا راية "الدولة ـ الأمة".
قائمة الدولة العربية والإسلامية ، الفاشلة أو الآخذة في التآكل طويلة نسبيا ، وهي مرشحة لاستضافة المزيد من أسماء الدول ، على أننا لن نجازف بتعدادها في هذه المقالة ، حتى لا "نعكر صفو علاقتنا مع دولة شقيقة أو صديقة" ، فيلقى مقالنا اليوم ، مصير مقالة الأمس.
أوروبا تعبر الحدود الضيقة لدولة الأمة إلى فضاء الاندماج "القاري" الأرحب والأوسع ، والعالم العربي ينكفئ من حدود الدولة القومية الحلم ، إلى الدولة القطرية الآيلة للفشل والاضمحلال ، إلى حضيض الطوائف والمذاهب والإثنيات والقبائل والحمائل ، أوروبا تجتاز ثورات المعارف والعلوم والاتصالات والمواصلات ، ونحن غارقون في طوفان الأمية وبناء الحدران والأسيّجة وشتى أنواع الرقابات.. أوروبا تجتاز الحداثة إلى ما بعدها ونحن نتوزع على العمائم وفقا لألوانها وأحجامها ، ولا نختلف على جنس الملائكة فحسب ، بل ونريق دماءنا أيضا للبرهنة على أن زمننا هو "زمن الظهور" وأن المهدي المنتظر سيقرع أبوابنا قريبا.
عن الدستور .