ثمّة صمت، بل تواطؤ أميركي مع النفوذ الإيراني المتنامي والمتزايد خلال الفترة الأخيرة. وتشي تلميحات ومقابلات الرئيس باراك أوباما بأنّ الإدارة الأميركية لا ترغب في الصدام مع طهران؛ فتقرّ بدورها في العراق ولبنان واليمن، وتتعهد بعدم استهداف الأسد في سورية، في الحرب الراهنة، خشيةً من تأليب حلفاء إيران عليها.
من الممكن أن نفهم فعلاً السلوك الأميركي في التعامل مع طهران بوصفها قوة إقليمية صاعدة، وفي التغاضي عن "التطرف الشيعي"، بل والإعجاب المبطّن من قبل الأميركيين بدور قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، والتعاون، الذي أصبح مباشراً في العراق، مع الحرس الثوري الإيراني والميليشيات الشيعية، وفي مقدمتها "عصائب أهل الحق" التي كانت تستهدف الجنود الأميركيين في العراق سابقاً، وزعيمها قيس الخزعلي.
ربما الأميركيون لا يرون في إيران ولا الشيعة خطراً محدقاً بالمصالح الأميركية الاستراتيجية، في حال تمت الصفقة. وكما همس أوباما للصحفي الأميركي المعروف جيفري غولدبيرغ، فإنّ هذه الميليشيات الشيعية يمكن ضبطها عبر العلاقة مع إيران، بما يخدم مصالحها الحيوية، بينما "المتطرفون السنة"، وفقاً للرئيس الأميركي، لا يوجد من يضبطهم، أو يحدّ من خطرهم على المصالح الأميركية؛ أي لا يوجد "راع سُنّي" لهذه الجماعات المنفلتة التي تعلن حرباً عالمية مع الولايات المتحدة.
إذن، بلغة المصالح ومنطق موازين القوى، وبقراءة التراجع في الدور الأميركي الإقليمي، يمكن أن نفهم التحويلة الأميركية تجاه إيران، بخاصة أنّ أوباما جاء وضمن أولوياته الخروج من العراق، كما وعد الأميركيين، حتى لو سلّمه لسليماني وخامنئي والسيستاني.
كل ذلك مفهوم. لكن ما لا يمكن فهمه، أو هو بحاجة إلى قدر كبير من التحليلات النفسية والاستراتيجية المعقدة والمتشابكة، تلك التحويلة في الموقف الرسمي العربي، أي المعسكر المحافظ؛ إذ قلب أولوياته ورؤيته لمصادر التهديد، فتحولت الأولوية فجأة من إيران ونفوذها الإقليمي ودعمها لنظام الأسد، وسيطرتها على صنعاء وبيروت وبغداد ودمشق، إلى الحديث عن الإرهاب السُنّي. ليس ذلك فقط، بل والزج بحركات الإسلام السياسي كافّة، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين والسلفيين بألوانهم المختلفة، وحتى المنظمات الإغاثية الإسلامية، وفصائل الثورة السورية، بما فيها تلك التي لا تنتمي لداعش أو النصرة، في خانة الإرهاب، واعتبار مصدر الخطر متمثّلاً في الإسلام السياسي السُنّي، مع تركيا أردوغان!
لم تحرّك الدول العربية ساكناً تجاه ما يحدث في صنعاء. وتراجعت كثيراً، بل وانقلبت على نفسها في الملف السوري، فأصبحت تقبل بأي تسوية دولية أو إقليمية، ولو أبقت الأسد. واستسلمت لإيران في بغداد وبيروت، وهي تصب جام غضبها اليوم على الأتراك وأردوغان و"الإخوان"!
حتى الموقف من أردوغان يمكن أن نفهمه وأن ندرك الأسباب الخفية وراءه، ومحاولة تحميل تركيا مسؤولية نمو "داعش" و"النصرة" والإسلاميين في سورية، بالرغم من أنّ هذا غير دقيق. فمن المعروف أن قرار تسليح المعارضة السورية وتسهيل عبور المقاتلين كان قراراً دولياً وإقليمياً، ساهمت فيه أطراف عربية. إلا أن ما لا يمكن أن نفهمه هو هذا التخلي الكامل عن "القضية السُنية" في الدول الأربع (سورية، والعراق، ولبنان، واليمن)، وهي الشرط الجوهري والرئيس لنمو "داعش" وصعوده في المنطقة، وفي قلب ذلك كله القلق الوجودي على الهوية السُنّية من تنامي النفوذ الإيراني في ظل غياب أي رافعة إقليمية عربية سُنّية بديلة!
ليس الصراع هو السيناريو الوحيد المتاح مع إيران. لكن حتى لو أراد العرب الجلوس إلى طاولة المفاوضات، فمن الضروري أن تكون بأيديهم أوراق قوة واضحة. بيد أنّهم يرمون بكل شيء اليوم، ويخسرون في كل مكان، من دون أن نفهم فعلياً على ماذا يراهنون؟!
(الغد)