في عدد أيلول الصادر قبل ثلاثة شهور، نشرت مجلة التايم الأمريكية مقالا مهما بعنوان (عصر العقلانية الثاني(The Second Age of Reason-. وتناول المقال لكاتبه (مايكل جرينوالد) أثر فيض المعلومات الكثيرة التي يوفرها العصر الرقمي الحالي عبر تكنولوجيا ذكية على حياتنا ، وكيف ستغير الانسانية كما غيرها عصر العقلانية الأول. ويتحدث تحديدا عن (الهاتف الذكي) الذي يحمله العديد من الناس، ويضع مخزون المعرفة الهائل الذي يعادل عشرات المكتبات بين أيديهم، ييسر لهم امورهم ويساعدهم في الحصول على أية معلومة يشاؤون: سواء كانت ذات صلة بالطقس، او بآخر الأخبار، أو بأسعار الأشياء، او بالأطعمة الصحية او الضارة ، او بحجز مقعد في طائرة، الخ. وها هم يتحدثون عن هاتف ذكي يقيس درجة حرارة الانسان وضغطه.
وكما يقدم الهاتف الذكي، أو الكمبيوتر، عبر الانترنت، معلومات مفيدة، فقد يقدم لك معلومات فيها تضليل وخداع. وكنت كتبت مقالا عن القدس سابقا بعنوان «النداء قبل الأخير»، بينت فيه ان مصادر ذلك المقال كانت كلها اجنبية، فلا يشعرك ان القدس عربية. وفي هذا يعترف جرينوالد ان موسوعة «الويكيبيديا» الالكترونية قد اغتالت الموسوعات الرزينة، مثل الموسوعة البريطانية.
ويحذر الكاتب من ان استعمال الأجهزة الذكية سيضعف ذاكرتنا، تماما كما انه سيضعف صلاتنا الاجتماعية.
ان توفر المعلومات لا تجلب معها المعرفة او الحكمة، اذ لا يعني ان يعرف المرء الكثير من المعلومات انه أصبح عالما. ومن هنا فان عصر العقلانية الأول، الذي أعقب أختراع المطبعة في القرن الخامس عشر، عمل على قلب فلسفة اوروبا، من فلسفة قائمة على الدين، الى فلسفة قائمة على العقل حددها ديكارت بمقولته المشهورة: «أنا أفكر، فأنا موجود»، ولم يتوقف عند هذ الحد، فاعتمد مبدأ الشك الذي يقود الى اليقين. وقاد اعتماد المنطق والعقل الى تحرير الانسان من قيود السلطة المطلقة والنظام الطبقي، وصار الفرد محور الكون. وقادت النهضة الفكرية الى اصلاحات جذرية، منها: دينية (فصلت الدين عن السياسة)، وعلمية (اعتمدت العقل (Reason) فركزت المدارس والجامعات على المنهج العلمي الاستنباطي)، وتجارية (قادت الى الثراء الاقتصادي واكتشاف العالم الجديد كما قادت الى الاستعمار)، وصناعية (اوصلت الى المكننة)، وسياسية (توجت بالثورتين الفرنسية والأمريكية نهاية القرن الثامن عشر، وشرعنتا الليبرالية والعلمانية منهج حياة، وحققتا التمثيل النيابي وحكم الشعب من الشعب).
وبعدها تطورت الحياة باتجاه طرح مبادىء مهمة اعترفت بحقوق الانسان وحريته وكرامته. وفي سبيل ذلك خاضت البشرية حروبا، وما زالت، في محاولة مستمرة لدحر قوى الظلام والجهل.
ملاحظة: هل قلت عصر العقلانية الأول؟ في كتابين يقررهما الأساتذة أحيانا على طلبة الإعلام في الجامعة (لأستاذين كبيرين!) ، تمت ترجمة المصطلح الانجليزي (Reason) بالسبب، واختلط المعنى في الكتابين بصورة تبعث على الغثيان العقلي. أحد المؤلفين يحمل شهادتي دكتوراه، وليست واحدة. ولك ان تتخيل كيف يتعلم الطلبة من مثل هذه الكتب التفكير السليم. الرأي