كان حدثا استثنائيا بحق أن نشهد في بلد عربي رئيسا سابقا يسلم السلطة بشكل سلمي لرئيس جديد منتخب. الأسبوع الماضي عشنا هذه اللحظة النادرة في تونس؛ المنصف المرزوقي ينقل السلطة للباجي قائد السبسي، في وقت كانت فيه دول "الربيع العربي" تغرق في الفوضى والحروب والدماء.
سيخرج علينا من يقول إن تونس حالة خاصة لا يمكن القياس عليها. بيد أن هذا المنطق يذكرنا بما كان يقوله حكام مصر وليبيا وسورية واليمن غداة الثورة الشعبية في تونس. ألم يقولوا إن تونس غير مصر واليمن وليبيا وسورية، لتؤكد الأحداث بعد ذلك عقم هذه النظرية؟!
ثمة بعض الخصوصية للمجتمع التونسي، وقد ذكّرنا بها الرئيس المنتخب السبسي بعد تسلمه مقاليد السلطة. لكن الثورة التونسية تعرضت في البداية لنفس التحديات التي واجهت الثورات في دول عربية أخرى؛ صراع العلمانيين مع تيار الإسلام السياسي، وتدخلات القوى الخارجية للتلاعب بمسار الثورة، وبروز تحدي الجماعات الإرهابية.
وليس صحيحا أن أثر هذه العوامل في تونس كان أقل منه في مصر أو اليمن على سبيل المثال. هنا وهناك كانت الأموال تتدفق على أطراف العملية السياسية. وفي مختلف تلك البلدان، بلغت المنافسة حد استخدام السلاح لتصفية الخصوم. السنوات الثلاث الماضية شهدت عمليات اغتيال في تونس لشخصيات بارزة من قيادات الثورة، وسقوط العشرات في مواجهات مع الشرطة أو على يد الجماعات الإرهابية. وتدفق السلاح من ليبيا إلى تونس، كما الحال مع مصر.
الظروف كانت متشابهة، وعوامل الفوضى كانت حاضرة في التجربة التونسية، مثل مصر وليبيا واليمن، لا بل إن تونس قبل أقل من عامين كانت مرشحة للفوضى أكثر من اليمن.
لكنْ هناك فرق وحيد جوهري، وهو أن القوى السياسية في تونس لم تستسلم لنظرية المؤامرة الخارجية، ولم ترهن مصير بلادها لحسابات قوى إقليمية وأجنبية، ووضعت مصلحة البلاد فوق مصالح الأحزاب.
التونسيون الذين أطلقوا شرارة "الربيع العربي"، تعلموا الدروس من تجارب الثورات التي قامت بعد ثورتهم. حركة النهضة أدركت أن سياسة الإقصاء ستنتهي بهم مثلما انتهى الإسلاميون في مصر. والتيارات العلمانية أيقنت أن استبعاد "الإخوان" من الساحة يعني إفساح الطريق لعودة النظام القديم بكل شروره.
في المحصلة، اقتنعت كل الأطراف أن تونس يجب أن تبقى لجميع التونسيين. هنا أصبحت مؤامرات الخارج عديمة الجدوى، وسلاح الإرهابيين صار مجرما ومنبوذا في بؤر صغيرة.
في الانتخابات الأولى، ربحت حركة النهضة وخسر "نداء تونس"، وتولى تحالف "ترويكا" من قوى إسلامية ومدنية، على رأسهم المرزوقي، قيادة البلاد في المرحلة الانتقالية. وفي المرحلة الثانية بدلت صناديق الاقتراع المعادلة السياسية، وتقدم العلمانيون، وقبلت "النهضة" بمقعد المعارضة. وهكذا دارت عجلة الديمقراطية والتداول السلمي على السلطة، تماما كما كان هدف التونسيين من الثورة.
صدقوا، لا مؤامرة ولا ما يحزنون. كل ما في الأمر أن شعب تونس وقادة ثورتها قرروا أن يأخذوا المستقبل بيدهم، ولا يسلموا للآخرين في الخارج، على خلاف أقرانهم في دول عربية؛ باعوا ثوراتهم، وسلموا مصيرهم للفوضى.
أو ليس غريبا حقا أن لا تجد معارضا تونسيا يعيش خارج بلاده، باستثناء الرئيس الهارب زين العابدين بن علي، بينما قادة معارضات في دول شهدت ثورات استقروا مبكرا في عواصم إقليمية وعالمية؟!
(الغد)