الحاج كريم النوايسة الذي سيحضر في الغياب
د.مهند مبيضين
01-01-2015 03:11 AM
صفته بين الناس “المجبر” لكونه رجلا احترف الطب الشعبي، ومارسه طيلة سبعة عقود وأكثر من عمره، فعرفوه طبيباً، ولم يقتنعوا بغيره، كان دالاً على الشفاء، ويمسح على المرضى بيده وبحذاقة، الجراح والمختص يداوي الكسور وأنواع خلع العظام ويعيدها بكل صبر وحرفية إلى موضعها، هكذا كان، وهكذا عاش حبوراً راضياً بما قسم الله له من موهبته لم يجد طريقه إليها عبر الشهادات العلمية، بل في الخبرة المكتسبة من مهارة العقل والمعرفة وحسن التدبر.
الحاج المرحوم والطبيب الشعبي كريم النوايسة، توفي أول من أمس عن عمر ناهز التسعين من عمرمضى كلمح البصر على من أحبوه واستشفوا على يديه، كانت يداه تشفي، وقراءته للوجوه ومواضع العلل والكسر لا تخطئ، وبينما المنطقة التي هو فيها تحتضن الجامعة الأولى في الجنوب، كان الحج كريم عنوانا لا يتيه عنه الناس ولا يغفلون عنه إذا ما ألمَّ بهم خطب أو علة، وقد يتيهون عن الجامعة.
في سفر الحياة الكثير من المودات، وفي الذاكرة الجمعية للكرك والجنوب، رجل طوى الزمن في مدارات أوجاع الناس وإشفاء السقيم ومداراة العليل حتى يبرأ وجعه، كان لا يخفي نفسه فيختار المسجد عنواناً له، ويلتقي الناس الذين يطلبونه هناك، حيث اجتماع الطيبة مع التقوى والصلاح. لذلك، لم يكن مستغربا أن يكون خبر وفاته بين أبناء المنطقة هو الخبر الأكثر انتشاراً على صفحات شبكات التواصل ومواقع الأخبار في الكرك.
هكذا سيرة لا تغادر ضمير المجتمع، سيرة لم تختلط بأي نوع من أنواع العمل البيروقراطي ولا لجان العمل الحكومي، لكنها عرفت بحدسها وخبرتها مواطن العلل والوجع فكان يشفي المصاب والمكسور والمخلوع بلمسة ساحرة، وهكذا هم الناس يتعلقون بمن هو معهم في الوجع، أكثر ممن هم معهم في مواسم الفرح التي إن غاب عنها أحد لا يفتقد، غير أن المرحوم كريم كان من الذين يفتقدهم القوم ويحتاجونهم كلما ادلهمت بهم طرق الوجع وتلاوينه.
في الذاكرة الشعبية عدة أطباء شعبيين يقصدهم الناس في مجتمعنا الأردني، وراحلنا العزيز كان علامة في الجنوب كله والكرك بخاصة، لم يترك أحدا يختلف معه أو يبغضه، حصد الحب من يديه وحسن منطقه وسلامه صدره، وطول نفسه على مطالب الخلق التي لا تنتهي وتتعلق بكل سبل العلاج حين يحضر المرض والإصابة.
طال صبر المرحوم كريم النوايسه على أوجاع الناس ومعاناتهم، قد يكون الخلاص راوده من التحلل من تلك المهمة، لكنه أبى أن يقطع حبل الود والحب للناس، وظل في هامشه الواسع من الحب والخبرة العلاجية الكثير مما يقدمه، وكأن الموت بعيد عنه، وعلى الرغم من الانتظار إلا أنه لم يكن يوماً سببا للقلق مما يحمله الغد القادم، فليس هو بطبيب في عيادة فارهة ينتظر المراجعين ويعد فواتير الكشفيات، وإنما كان على طريقته المعهودة غير آبه بالمال، لقدر ما ينتظر دوما أحدا يطرق الباب ليساعده، وفي المقابل ظل مفعما بالأمل يعيش لحظته حتى النهاية، المرجوة، دونما كلل أو ملل من ملاقاة الناس، وهكذا نسج لنفسه الجميلة حضورا مشعاً وسيظل باقيا في حضرة غيابه.فرحمه الله وأسكنه فسيح جنانه.
(الدستور)