نعيش هذه الأيام باقة من المناسبات الدينية المرتبطة مباشرة بآخر نبيْين من أنبياء الله ورسله، هما عيسى وبشارته محمد عليهما السلام، خاصة لجهة ميلادهما، فبعد ان احتفلنا بعيد ميلاد عيسى عليه السلام، ها نحن على أبواب إحياء ذكرى مولد محمد عليه السلام، وهما مناسبتان تدفعاننا نحن أتباعهما لاستذكار العلاقة الأزلية بينهما، لتكون منطلقًا لتمتين الروابط والوحدة بيننا كأبناء وطن واحد.. وعند ذكر الوطن الواحد، نحب ان نذكر بعض المتشدقين باسم الإسلام الساعين لجعله سببًا لتفريق الأمة وتمزيق صفها، بأن رسول الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بنى دولته الأولى في المدينة المنورة على أساس المواطنة. فكان فيها المسلم، والمشرك، واليهودي، والمنافق، كل يمارس طقوسه ومعتقداته وأعرافه بحرية تامة في الإطار الذي نظمته وثيقة المدينة كأول دستور للدولة الإسلامية، ومن ثم فإن أية دعوة للتمييز بين المواطنين على أساس انتمائهم الديني هي دعوة مناقضة لروح الإسلام، ومعاكسة لسيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
غير وثيقة المدينة التي نظم فيها رسول الله العلاقة بين المواطنين من أهل يثرب، فإن سيرته عليه السلام تقدم نموذجًا عمليًا تطبيقيًا للعلاقة بين المسلمين ومواطنيهم من غير المسلمين، فعلى الصعيد الاجتماعي نحب ان نذكر من نسي أنه عليه السلام تزوج من يهودية، ومن مسيحية هي ماريا القبطية أم المؤمنين جميعًا، وظل يوصي بالقبط على وجه أخص وبالمسيحيين على وجه الخصوص، وبأهل الكتاب عمومًا.
وعلى الصعيد الاجتماعي أيضًا، فمن الثابت ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعهد جيرانه من أهل الكتاب بالبر وحسن الجوار، ويتبادل معهم الهدايا، ويحضر ولائمهم ويشاركهم مناسباتهم الاجتماعية، ويتواصل معهم اقتصاديًا.. بيعًا وشراء واقتراضًا. ويكفي هنا ان نذكر بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات ودرعه مرهونة عند كتابيّ.
أكثر من الامتزاج الاجتماعي والتعامل الاقتصادي. نُذكر بأنه عليه السلام قسم مسجده إلى قسمين أنزل في أحدهما وفد نصارى نجران يقيمون فيه ويصلون، وظل القسم الآخر للمسلمين. علمًا بأن الوفد جاء لمجادلة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قبل منهم عليه السلام ذلك، وأكرم وفادتهم، وكان حريصًا عليه السلام على خدمتهم بنفسه ردًا منه للجميل، بعد ان أكرم النجاشي وفادة من هاجر إليه من المسلمين في الهجرتين الأولى والثانية، هربًا من بطش المشركين.
وعلى ذكر النجاشي نتذكر الوشائج المتينة التي ربطت بين المسلمين والمسيحيين مبكرًا، حتى قبل بعثه محمد عليه السلام، فقد انتشر الكثير من رهبان المسيحية في جزيرة العرب وما حولها في انتظار الرسول الجديد الذي بشر به عيسى عليه السلام.. بل إن أول من حمى محمدًا من كيد يهود كان راهبًا نصرانيًا هو بحيرة الراهب، أو راهب البحيرة، عندما كان محمد عليه السلام صبيًا يرافق عمه في رحلته إلى بلاد الشام، كما هو معروف في كتب السيرة. لذلك لم يكن غريبًا ان يختار رسول الله للفئة الأولى من أتباعه جوار ملك مسيحي هو النجاشي، الذي حمى المهاجرين من بطش قريش. وكثيرة هي الأحاديث النبوية للنبي عليه السلام التي تحث على احترام المسيحيين.
ومثل السنة النبوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهي المصدر الثاني من مصادر التشريع في الإسلام. فإن سيرته عليه السلام وهي القدوة التي لا مفر للمسلم من السير على هداها، فإنهما–السنة والسيرة–تغصان بالحث على احترام أهل الكتاب والمسيحيين منهم على وجه الخصوص، لأنهم كما ورد في القرآن أكثرهم مودة للمسلمين. وكثيرة هي الأحاديث النبوية التي تبين مدى حب رسول الله لأخيه عيسى بن مريم سيدة نساء العالمين، التي أفرد لها القرآن الكريم سورة كاملة حملت اسمها، ولم يفعل ذلك مع زوجات النبي وبناته، وأهل بيته، مما يبين المكانة الخاصة للسيدة مريم، ومن ثم لابنها لدى المسلمين، وهي مكانة انسحبت بالضرورة على أتباعه عليه السلام، ويكفي هنا إشارة القرآن الكريم إلى حزن المسلمين لانتصار الفرس على المسيحيين، ومن ثم فرحهم بالبشرى بقرب انتصار المسيحيين على الفرس بقوله تعالى: «غُلبت الروم في أقصى الأرض وهم من بعد غليهم سيُغلبون» وهذه واقعة من وقائع كثيرة تدل على الوشائج المتينة بين أتباع عيسى وأتباع محمد عليهما السلام اللذين آن الأوان لنعود إلى محرابيهما ليعبد كل منا ربنا الواحد وفق معتقده، ثم نمارس حياتنا المشتركة كأبناء وطن واحد، لا نسمح لأحد بأن يفرقنا بفتوى تبتعد كثيرًا عن سيرة وسنة رسول الله.
"الراي"
Bilal.tall@yahoo.com