في إحدى اجمل قصائد الحب والوجد التي وصفها النقاد "بالمؤنسة" يقول قيس بن الملوح "وقد يجمع الله الشتيتين بعدما .... يظنان كل الظن ان لا تلاقيا"....
المفرق التي اخذت اسمها من موقعها على خط موجات الهجرة والترحال بين اليمن والحجاز ونجد جنوبا والشام وبغداد وبيروت وصيدا وعكا شمالا وشرقا وغربا.. حيث يتوقف المهاجرون من جزيرة العرب فيها ليحددوا مقصدهم القادم، فيقرروا على هذا المفترق ايذهبوا شرقا صوب بغداد.. ام شمالا نحو الشام... او غربا الى بيسان وطبريا ومدن سواحل المتوسط.
من هنا كانت المفرق اسما على مسمى.. يحل عليها القادمون من الجنوب والغرب والشرق ويتوقفون ليستخيروا قبل ان يستأنفوا رحلاتهم بحثا عن الامن والعلم والاستقرار...
في البلدة الوادعة وجوارها كان يطيب العيش لمن يقعون في حب المدينة التي فتحت ذراعيها لكل الوافدين فلا اسوار ولا حراس ولا اقفال... فاتيح للجميع ان يتمتعوا بسحر نورها الشامي مثل البغدادي والطرابلسي مثل النجدي.
ورحب مسيحيوها ومسلموها بدوها وحضرها بخطارها وزوارها بود وحب ودفء لا يخبو او يتوقف.
بالامس كنا على موعد مع جمع من رجالاتها الافذاذ... في اجواء طغى دفئها على برودة الايام الاولى من مربعانية الصحراء..
الى جانب الاصدقاء علاء العرموطي والكاتب الصحفي عمر كلاب والاعلامي اياس شعبان التقى على مائدة مضيفنا المحامي معن العموش اكاديميون وحقوقيون ومهندسون وقضاة وناشطون واعلاميون يعرفون بلادنا وتاريخها واحلام اهلها ويدركون اوجاعها وهمومها.. ويتمنون لها الخير وتردد قلوبهم التي تتمنى "ان يصبح عليها الخير .... فهي بالنسبة لهم زينة البلدان..".
في حديث طويل ومتشعب طال كل القضايا التي اجزم انها كانت موضوعا لاحاديث اغلب الاردنيين الناشطين منهم والساكنين.. والصامتين والهامسين.. فمن الصعب ان تعزل الناس عن قضاياهم ويخطئ من يظن ان الاردنيين لا يهتمون بالسياسة والشأن العام.. واظن ان لدى الكثيرين منهم تشخيصا للواقع ووصفة للحلول تتفوق على دراسات المستشرقين ممن اسند لهم مسؤولية القيام بهذه الادوار.
في المفرق اليوم حالة انفجار سكاني لم تشهدها البلاد من قبل... ففي البلدة التي لم يتجاوز ساكنيها الـ80 الفا قبل اعوام اصبح تعداد ساكنيها يتجاوز الـ200الف.. دون تغيير يذكر على الخدمات... فاكتظت الاسواق.. وتفاقمت ازمة المساكن.. وتراكمت القمامة على نواصي الطرقات.. وعادت مخاوف الناس من الامراض التي اعتقدنا اننا تجاوزناها كالشلل والحصبة.. وتفجرت شبكات الصرف الصحي التي لم يعد بمقدورها استيعاب الضغوط الجديدة على سعتها.. وشعر الناس بالضيق والقلق والظلم والاهمال..
في الحديث عن النزوح السوري اجمع الشباب على ان الآثار على الصحة والبيئة والسلوك الحضري امر لا خلاف عليه ففي كل الدنيا تحدث الهجرات ونمو السكان تغييرا على البيئة ونظامها بما فيه من عوامل وتعكس نفسها على طرق تفكير الناس وشعورهم وتصرفاتهم.. لكن المزعج للشباب هو القصور الواضح في استجابة الدولة ومؤسساتها للواقع الجديد والتباطؤ في الاستجابة لمطالب المدينة واحتياجاتها التنموية والخدمية الطارئة التي احدثها اللجوء.. فمن غير المعقول ان تتراكم النفايات في البلدة الى الحد الذي اصبح احراقها وتصاعد الدخان من بين البيوت طقسا يوميا يلجأ له السكان لحماية انفسهم واسرهم من الاوبئة والقوارض التي بدأت تغزو المدينة.
يتحدث الشباب عن الاسلحة وانتشارها وعن المخدرات وعن.. وعن...
المدهش في كل ما قيل انهم يعرفون بقصص الاحتكار ولوبيات المتاجرة في المخيمات والمتنفذين وشركاتهم وعقود التموين وعقود الخدمات والسمسرة التي تمر من امامهم فعليهم المغرم وهم بعيدون عن المغنم...
بعض المسؤولين ممن عملوا في مواقع متقدمة اسسوا جمعيات في المفرق وعملت جمعياتهم في بزنس الكوبونات..
الخبز يتم شراؤه من عمان.. والخيم يكلف بناء الخيمة 100 دولار حسب السجلات وتبنى بستة دنانير.. تأثير اللجوء على السكان يمكن ان يكون له بعض الايجابيات ان احسنت ادارته وجرى توظيفه كمدخل من مدخلات العملية التنموية... ما يحصل في المفرق والكثير من المدن والبلدات الاردنية ان الحكومة شبه غائبة في إدارة عمليات التحول التي يفرضها اللجوء والمواطنون مكشوفون لكل التاثيرات المحتملة.. في حين ان اللاجئ يتلقى الدعم الاساسي ويمكن ان ينافس الاردني في سوق العمل ويحل مكانه .
في المفرق هموم ومشكلات كثيرة وقصص تستحق ان يستمع لها.. وعلينا جميعا واجبات اكبر واكثر بان نفكر معا ونبتدع حلولاً للتخفيف على اهلنا والحفاظ على جماليات البلدة التي توقف فيها الملايين عبر التاريخ فكانت محطة على طريق الانباط وقوافلهم والروم والفرس فيها الكنائس الاقدم ووصلت العباسيين بالامويين والاتراك بالبداوة ... المدينة التي كانت هي المفترق تعود اليوم لتكون الملتقى فقد عاد اليها وعبرها العراقيون والسوريون... وغيرهم.
عندما انطلقت الثورة العربية في بدايات القرن الماضي كان هدفها المعلن توحيد العرب فاقامت دولة في الشام واخرى في العراق الى جانب امارة الاردن... اليوم وبعد ان انهارت ممالك الشام والعراق والدول التي خلفت الممالك عاد اهالي هذه الممالك الى الاردن وعبر المفرق.... فهل سينجح الاردن ان يقيم الوحدة العربية بين اقطاب الهلال الخصيب من على ارض الاردن بعد ان فتح ابوابه لكل العرب. سؤال ستكشف عن اجابته الايام.