تستمر ظاهرة التبرع بحقوق الفلسطينيين كإحدى وسائل التقرب من اسرائيل والتودد لها. والغريب ان تصدر افظع انتهاكات القانون من قبل صناع القانون في المجالس المنتخبة, التي من صميم مهامها وضع القوانين والعمل على حمايتها وصيانتها.
والاشارة هنا للقرار الذي صدر عن الكونغرس الاميركي في مطلع هذا الشهر.والذي وصف بأنه الاول من نوعه الذي يحدد موقفاً من اللاجئين اليهود الذين غادروا الاقطار العربية بعد قيام دولة اسرائيل.
قبل صدور هذا القرار, رقم185 بتاريخ1 نيسان, اشارت كل القرارات الاخرى الى اللاجئين في الشرق الاوسط على انهم من الفلسطينيين. اما هذا القرار فإنه يؤكد بأن الحكومة الاميركية ستقر من الآن فصاعداً بأن معاملة متساوية يجب ان تطبق على جميع ضحايا الصراع العربي الاسرائيلي. ويحث القرار الرئيس الاميركي, وغيره من الرسميين المشاركين في محادثات الشرق الاوسط بأن يتأكدوا ان اية اشارة للاجئين الفلسطينيين "يجب ان تشمل اشارة متساوية الى ضرورة حل قضية اللاجئين اليهود من الاقطار العربية".
ويتحدث القرار عن850 الف يهودي غادروا البلاد العربية منذ عام 1948 وأنهم تعرضوا للمعاناة وتركوا املاكهم وتراثهم وتبعثرت مجتمعاتهم, كما تعرضوا للترهيب والمطاردة, وبالتالي فانه لا يجوز حصر الحديث في موضوع اللاجئين الفلسطينيين من دون الاشارة لمأساة اللاجئين اليهود. ويشير قرار الكونغرس الى قرار مجلس الامن بعد حرب 1967 اي القرار242 الذي تحدث عن ضرورة حل عادل لقضية اللاجئين, دون ان يحدد اللاجئين الفلسطينيين كفئة محددة من قبل القرار242.
اذا اخذنا هذا القرار على حاله فليس فيه ما يجافي الحقيقة. فمن ناحية العدالة المطلقة التي نطالب بها كعرب وفلسطينيين, ومن مقتضيات احترام القانون وحقوق الاخرين فيجب الاعتراف لكل من فقد حقا ان يطالب به, وان يلقى كل الدعم اللازم لاستعادة حقه. وانطلاقا من هذا المبدأ فلا يجوز استثناء اليهود العرب الذين عاشوا لمئات السنين بين المجتمعات العربية في الاقطار العربية بأمان وسلام ووئام.
ولكن المسألة ليست بهذه البساطة, ولا يمكن بالتالي عزل هذا القرار, والطريقة التي تمت بها صياغته, وتوقيت صدوره عن خلفيات معروفة تخفي اهدافاً واضحة ومعروفة من ابرزها التمهيد لمقايضة حقوق اليهود في الاقطار العربية بحقوق الفلسطينيين في وطنهم.
بالعودة للوراء في التسلسل التاريخي نجد ان هذا الطرح, ان كان جديداً في الكونغرس, فانه ليس جديداً في اسرائيل التي اكدت في اكثر من مناسبة هامة بأن هنالك لاجئين يهودا لهم حقوق ومطالب وبالتالي لا يجوز طرح حقوق اللاجئين الفلسطينيين فقط.
ولان اسرائيل تعتمد على الدعم الاميركي في كل مواقفها ومطالبها, فقد دفعت بهذا القرار داخل الكونغرس ليأتي كإقرار من قبل المجلس التشريعي للدولة العظمى الاكثر تأييداً لاسرائيل, لمسألة تتعلق بمقايضة لاجئ بلاجئ وحق ارضي بحق ارضي. وليس من قبيل الصدفة اذن ان يذكر القرار رقما مقداره850 الف لاجئ يهودي من الاقطار العربية كون الرقم التقديري للاجئين الذين غادروا فلسطين هو 750 الفاً. وعند المقارنة فإن الجانب الرابح في المقايضة هو الجانب الفلسطيني كون عدد اللاجئين اليهود ضحايا الصراع هو الاكثر عدداً.
ويتجاهل قرار الكونغرس مسألة اساسية اخرى وهي ان عرب فلسطين تعرضوا لعمليات تنظيف عرقي ومجازر واجلاء قسري وقتل وتدمير وتشريد بالاساليب الارهابية الفظيعة لانه كان مطلوباً احتلال الارض من دون السكان لإحلال اليهود القادمين من شتى ارجاء المعمورة مكانهم.
بينما كان قرار اليهود العرب بمغادرة اوطانهم اما قراراً طوعياً من قبلهم لدعم المشروع الصهيوني في فلسطين, ولبناء الشعب في "الوطن الجديد" الذي وعدهم به وزير الخارجية البريطاني بلفور عام1917. ولم تتردد اسرائيل في تنظيم اعمال ارهابية ضد اليهود في بعض الاقطار العربية ممن عارضوا فكرة ترك بلادهم العربية والتوجه لاسرائيل, بقصد زعزعة استقرارهم واشعارهم بأن الخطر يهدد وجودهم ان هم لم يرحلوا لاسرائيل.
وكانت اسرائيل تجني الفائدة المزدوجة, فمن ترحيل العرب وتفريغ الارض من سكان فلسطين الاصليين حققت اسرائيل هدفاً استراتيجياً كبيراً وهو الاستيلاء على الارض من دون الناس لإفساح المجال لليهود القادمين. ومن اغراء اليهود بشتى الطرق, بما في ذلك الرعب المنظم, لترك اوطانهم والمجيء لاسرائيل, حققت اسرائيل بناء شعب اسرائيل, على الارض المنظفة عرقياً من أهلها.
فكيف اذن يمكن المساواة بين ضحايا التشريد القسري وبين من غادروا ارضهم طوعاً لدعم المشروع الصهيوني على ارض غيرهم.
من جوانب الخطورة الاخرى في قرار الكونغرس انه يأتي ضمن سلسلة من الاجراءات التي تمهد للقضاء على حقوق الفلسطينيين لصالح المصالح الاسرائيلية. فهذا القرار يستهدف بوضوح حقوق اللاجئين الفلسطينيين بما في ذلك حق العودة.
والقرار السابق الذي اتخذه الكونغرس في ايلول من العام الماضي استهدف اسقاط الحق الفلسطيني في القدس بمطالبة الادارة الاميركية بالاعتراف بالقدس كعاصمة موحدة ابدية لاسرائيل.
صحيح ان كلا الطرفين أشير اليهما على انهما كانا غير ملزمين. ولكن المسألة لا تتعلق بالالزام, كما ان ليس من حق الكونغرس ان يلزم الحكومة بمسائل تتعلق بحقوق طرف ثالث. المهم ان هذه القرارات تهدف لاعلان الدعم للموقف الاسرائيلي من قبل الدولة الاعظم والاهم, وكتظاهرة سياسية غايتها حشد التأييد لاسرائيل ولمواقفها ولمطالبها, وبالمقابل توجيه رسالة للفلسطينيين بأن هذه هي فقط الحدود التي يتوجب عليهم ان يحصروا مطالبهم ضمنها.
ثمة اشارة اخرى في القرار185 تثير الانتباه. وهي دعوة الحكومة الاميركية للتأكد من ان اية تسوية سلمية شاملة للنزاع العربي الاسرائيلي "يجب ان تشتمل على حل لقضية اللاجئين من الشرق الاوسط. وشمال افريقيا, والخليج الفارسي بحيث يضمن ذلك الحل الاعتراف بالحقوق المشروعة. والخسائر التي لحقت بجميع اللاجئين الذين رحلوا عن البلاد العربية من يهود ومسيحيين وغيرهم.
ان الاشارة للمسيحيين كفئة مستقلة تثير الشبهة من حيث امكانية تحويل الصراع على انه طائفي الطابع وليس صراعا على حقوق وارض وأوطان. او انها تهدف لسلخ المسيحيين عن هويتهم العربية وتصوير الصراع وكأنه بين مسلمين ومسيحيين ويهود وأن هنالك ضحايا من كل فريق.
عن الغد.