هناك مثل شعبي مصري اصبح معروفا في النطاق العربي بفضل القوة الناعمة وبالتحديد السينما والتلفزيون، يقول المثل « إمشِ عدل يحتار عدوّك فيك « وأهمية هذا المثل شأن كل الامثال الشعبية التي تتقطر من خبرات الشعوب انه من صميم علم النفس، لأن من يمشي كما تقول له الموعظة هو المنسجم مع ذاته والذي لا يكذب عليها، كما انه لا يكذب على الاخرين ايضا، لهذا تتكسر كل السيوف على بوابته الفولاذية العملاقة، انه يذكر مرضى النفوس بما ينقصهم، وكلما ازداد هذا التذكير تضاعف عدد الاعداء، فهم مستغرقون في اوهامهم واحلام يقظتهم يلبسون لكل حالة لبوسها، ولا يحتملون الوحدة ولو لدقيقة لأنهم هاربون من انفسهم، وذات يوم كتب فيلسوف عبارة قد تبدو عادية وعابرة لكنها في العمق تختصر الحكاية كلها، قال ان من لا يستطيع ان يجلس ساعتين في محطة قطار وهو يتأمل او يقرأ كتابا او يتذكر هو شخص يثير الشفقة لأنه على خصام مع نفسه .
لهذا فالعزلة باهظة التكلفة، وليس كما يتصورها البعض مجرد انسحاب من الواقع، خصوصا اذا كانت عزلة مؤثثة بالاف الكتب واللوحات والمقطوعات الموسيقية اضافة الى رحيق الذكريات .
من يمشي كما نصحه قائل المثل لا يخاف، ولا يخشى ان يضبط متلبسا بأي موقف غير سار ذلك ببساطة لأنه ما من فائض من الوقت لديه كي يموت همّاً من مراقبة الناس، ويقول ما يفكر به فقط وليس المطلوب منه ان يقوله، وهو قد يخسر القليل مما يظنه الاخرون غنائم، مقابل ان يربح ذاته .
وكما يقال فإن العبرة بالخواتيم، ففي نهاية المطاف ينام هذا الكائن المتناغم مع نفسه باستغراق، وليس على موعد مع كوابيس تقضّ مضجعه، لأن ذاكرته ليست آثمة، وأصابعه تفرّغت للشهادة والكتابة والعزف ومداعبة الاطفال ولم تضغط على زناد لقتل شقيق لدود، او تخنق حيوانا مسكينا لاذ به كي يحميه ! لكن هذا الامتياز الآدمي لا يعطى بالمجان وله مهر غالٍ ليس ميسورا لأحد، فهو ينعم بالاستغناء وليس ضحية ما سماه اريك فروم ان تملك او ان تكون، انه يواصل رهانه الشكسبيري حتى النهاية وهو ان يكون او لا يكون وهو حتما سيكون !
ومن النصائح التي يقدمها الاخصائيون في علمي الاجتماع والنفس ان لا يذكر الانسان الاخرين بما ينقصهم ويستشعرون غيابه على الفور، لكن هذا ليس ممكنا الا بالعزلة والابتعاد قدر الامكان عن سيوف دونكيشوت وطواحين الهواء والتابع المأمور على الدوام « سانشوا « !
(الدستور)