ما حدث في تونس يشكل مسباراً صادقا لحقيقة الواقع السياسي العربي، وما يجري فيه من تحولات مثيرة محفوفة بالضبابية وتحيطها التخوفات الشعبية من كل مكان، وما يجري في تونس منذ أربعة أعوام يشكل أفضل عينة عربية صالحة للاختبار والتحليل، لأنها حتى هذه اللحظة ما زالت تمارس تجربة سلمية مقبولة، وإن كانت لا تخلو من محاولات العبث الخارجي والتدخل العربي الاعلامي والمالي، من اجل تحويل مسار الثورة التي فجرها البوعزيزي؛ عندما أحرق نفسه احتجاجاً على سياسة نظام بن علي الهارب ،الذي يعد امتداداً لنظام بورقيبة القائم على منهج الحزب الواحد المستبد، والمهيمن على مرافق الدولة جميعها، والذي أدى إلى انتشار رقعة المهمشين في المجتمع التونسي الذين يعيشون على فتات القطط السّمان التي استأثرت بالاقتصاد التونسي ومقدرات الشعب.
تونس تعود إلى أحضان رجالات الحزب السابق، وهم في طريقهم للاستئثار بالرئاسات الثلاث؛ رئاسة البرلمان ورئاسة الحكومة ورئاسة الدولة، من خلال التحالف المتشكل من الحرس القديم، وفلول نظام بن علي، وأغلب الأحزاب اليسارية والقومية الذين يرون بكل وضوح و دون مواربة :أن التحالف مع النظام المستبد السابق ورجالات العهد البائد هو الطريق الأوحد لمنع الإسلاميين من الفوز بالسلطة، سواء اكانوا معتدلين أو غير معتدلين وسواء اكان قدومهم للسلطة بالديمقراطية وصناديق الاقتراع أو بأي طريق أخرى.
الألسنة الحادة التي سلقت الإسلاميين في مصر لأنهم فازوا بانتخابات مجلس الشعب، وانتخابات الرئاسة، واستلام الحكومة، سوف تكون الألسنة نفسها التي تلهج بالمديح والترحيب لما يفعله حزب نداء تونس عندما ينتخب (القائد السبسي :89 عاماً) لرئاسة الجمهورية وعندما يستحوذ على مقاعد الرئاسة الثلاثة، وسوف يكون هناك طوفان اعلامي طاغي في مدح الحدث والثناء عليه، وسوف يكون الاعلام قادراً على قلب الأسود إلى أبيض وبالعكس، كما فعلوا تماماً بالتغطية على انقلاب في دولة عربية أطاح بنتائج خمس جولات انتخابية واستفتاءات شعبية شاملة، مما يجعلنا أمام جملة حقائق وفي غاية الخطورة والوضوح في الوقت ذاته:
أولها : التحول الشعبي العربي ما زال غير مكتمل، ولم يكن عميقاً ولا جذرياً، ولم تصل الشعوب إلى مرحلة التمكين الحقيقي الفعلي القادر على تحقيق الالتفاف الشعبي حول الخيار الديمقراطي الحر.
ثانيها: أن تحديد الهدف للحركات الإسلامية والإسلاميين عموماً لم يكن صائباً ولا دقيقاً، إذ أنه يجب أن ينصب على تحقيق التمكين المجتمعي عبر التحول الشعبي العميق، وليس الوصول إلى السلطة، لأن استعجال الوصول إلى السلطة يحول دون سرعة التحول الشعبي، ويثير الضبابية والالتباس حول نبل الغايات وسلامة المقاصد.
ثالثها: ما زالت أغلب الأحزاب العربية التقليدية مجبولة عل الاستبداد والتسلط والنزعة الفردية، لأنها منبثقة من بيئة الاستحواذ على السلطة، وبيئة عدم الاعتراف بالآخر وعدم المشاركة معه، وقائمة على عقيدة احتكار الحق والصواب،وهذا الامر لا يخص طيفا دون طيف،ولا اتجاها دون اتجاه.
رابعها : حقيقة السلطة العميقة التي استأثرت بالسلطة عبر نصف قرن من الزمان، أنتجت منظومة قيمية راسخة، وتقبض على مفاصل الدولة بقوة، وتحكم سيطرتها على الجيش والإعلام والمال والمؤسسات والشركات والمعلومات، فليس من المعقول أن مظاهرة شعبية تستطيع الإطاحة بها بيوم وليلة، حتى لو استقال رأس الهرم.
خامسها: الحقيقة المرّة تتجلى في عجز المعارضة عن تشكيل البديل المقنع، وعجزها عن تدريب كوادرها على إدارة الحكم ومؤسسات الدولة، وعجزها عن إدارة الاقتصاد والموارد، لأنها بقيت تعيش على اللون السهل من المعارضة السياسية القائمة على الشعارات، والرفض المطلق، والمثاليات الحالمة، التي لن تكون قادرة على صناعة واقع جديد قابل للحياة.
وأخيراً ما تم عبارة عن درس عميق لكل الأطراف، وهو عبارة عن جولة من الجولات، ولكن الشعوب العربية سائرة في طريق اليقظة بشكل حقيقي وحتمي، طالت الطريق أم قصرت، فالانتصار حليف الشعوب الحرة الواعية في نهاية المطاف.
(الدستور)