موت قبل الأوان .. *ناهض الوشاح
20-12-2014 03:38 AM
كان أبا تائها بين عمل طوال النهار وصراخ من أجل لا شيءعلى بناته الخمس وزوجته التي فتحت على نفسها باب الصبر ...فانفتحت نوافذ الحزن على قلبها .
عاش مثل كثير من البشر ...ولد في وطن لا يملك منه سوى شهادة الميلاد ... وبعض الصور المستعادة من ذاكرة ملغومة بالبرد والكبت والخوف والجوع ... تمكن منه الوهن حين أصاخ السمع لأنّات أمه ... أنت سندي بعد غياب أبيك ... تركنا ولا نعلم أين ذهب ومتى سيعود ؟... خرج مع امرأة أخرى وضاع مع الحشود الزاحفة نحو الهاوية .
مع مرور الوقت اقتنع بصفعات الحياة ... وبما تمليه عليه أمه ... العمل خير من المدرسة ... والمال أفضل من الكتب !
في أحضان الحرمان ترعرع . كلما اشتعلت سنة جديدة من عمره أطفأ ملايين الحاجات في نفسه دون أن يعرف ماذا يريد ولا إلى أين تأخذه الأيام ... فالله يسوقه في الدروب التي يختارها .
زوًّجته أمه قبل غروبها عن وجه الأرض ... وتركت له بيتا صغيرا وحكمة تعلمتها من العمل في بيوت الناس ... إذا أردت البقاء حيا .. يجب أن تظل تعمل .
وظل الأب يعمل طوال النهار يكسب قوت يومه ... وفي الليل يعمل ليكسب جُهد نُطفه .
البنت الأولى ... ظل وجهه مسودا ... البنت الثانية ... لم يأتِ ... البنت الثالثة ... ربما يكون في البطن الرابع ... وكانت الدهشة تُمسك بكلتا يديها على جبينه ... توأم من البنات . لم يفرح ولكنه مارس رغبته في عيش مليء بالضجر متخم بالعزلة .
ورث الحرمان وصادق الجهل ... تعلق بلعب الورق ... انطلت الخديعة عليه ... فهو قابع في الحضيض ... لا شأن له بالنعيم ولا بالجحيم ... لا يُحس بمتعة الحديث ... فهو لا يملك إلا الصراخ ... كلما ازداد جهلا ازداد ألما ... ومع ذلك هو لا يعرف مصدر ألمه ... كأن علماء النفس أغفلوا ذكر اسمه ... أو أن ابن إياس لم يدر في خلده حين دون جزء من التاريخ أن رجلا كهذا سيكون موجود في يوم ما على هذه الأرض.
هو يعيش بيننا .. لديه أسرة ... تبلدت أحاسيسها .... والشعور باللامبالاة هي الأعراض المسيطرة عليها ... كأنها رد فعل غير سوي ... إزاء أب غير سوي ... فالنتيجة أفراد أسرة غير سوية .
تغرورق الكلمات من حاضر يُعانق ظلال جهله ... ونحسب أن أعداءنا يمكرون بنا ويحيطون بنا ... ونتعامى عن كثير من المآسي التي تكفي وحدها أن تكون أكبر احتلال ... وعبودية ... وظلم لأنفسنا .
نضيع في جهلنا... أكثر مما نضيع في موتنا ... !