من "الإنساني" الملتبس بالدين إلى "الأنسنة"
ابراهيم غرايبه
19-12-2014 11:31 AM
"وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ" (آل عمران، الآية 78).
تستمد جميع الصراعات الأهلية والدينية القائمة اليوم في البلاد العربية والإسلامية، من أفكار وتقديرات وتأويلات إنسانية للدين، يعتقد أصحابها أنها الدين، وأن مخالفتها تستوجب القتال والصراع، أو العقوبة بالسجن والغرامة والحرمان، وربما الإعدام. يستوي في ذلك المؤسسات الدينية الرسمية القائمة على السلطة والقوانين، والجماعات الوسطية (الإسلام السياسي)، والتي لا تختلف في الفهم والتأويل والتطبيق عن وسطية المؤسسة الدينية الرسمية، والسلفية؛ المعتدلة منها والمتطرفة، والرسمية والخارجة على القانون.
يميز جميع المسلمين وغيرهم أيضا القرآن الكريم على نحو واضح وقاطع، ولا يخلط أحد القرآن بغيره. فلم يصف أحد آية من القرآن بأنها ليست كذلك، ولم يصف أحد نصا ليس قرآنا بأنه كذلك. فالخلاف، إذن، في الفهم والتطبيق والتأويل، وكلها تدور خارج القرآن الكريم.
بمعنى أن الصراع والخلاف يدوران حول مفاهيم وأفكار إنسانية، لا يجزم أحد من أصحابها أنها حق نزل من السماء كما القرآن، ولا يجزم أحد من أصحابها أن مخالفتها هي خروج عن الدين يستوجب القتال أو السجن والغرامة.
الناس يتقاتلون اليوم، ويموتون ويجرحون ويسجنون ويعاقبون ويهجرون بالجملة، في كل أنحاء العالم الإسلامي، لأجل أو حول أفكار ومفاهيم يقول أصحابها إنها الدين أو أنها لأجل الدين. وفي الوقت نفسه، فإن أحدا من القتلة أو المقتولين، السجانين أو المسجونين، لم ينكر آية من القرآن، ولم يضف إلى القرآن شيئا من خارجه وزعم أنه القرآن.. نقاتل لأجل أفكار وتطبيقات إنسانية نعترف أنها فهم الدين وتطبيقه، وليست الدين نفسه، ولا نجزم بصحتها!
وهكذا، يملك المُفتون الرسميون ووزارات الأوقاف والكليات الحكومية لتدريس الشريعة الإسلامية، كما الجماعات الإسلامية المعتدلة والمتطرفة والوسطية والسلفية والمؤيدة والمعارضة والسلمية والمقاتلة، سلطات ووصاية على الدين وفهمه وتطبيقه بقوة القانون والسلطة، أو بالتأثير والدعوة، أو بالتمرد ومقاومة السلطات، لم يخبر بها النص الأصلي الذي يؤمن به الناس. وفي حقيقة الأمر، فإن الذي نطبقه أو لا نطبقه، والذي نتقاتل حوله أو نعاقب بسببه من السلطة، ربما لا يكون الدين الذي نزل من السماء، ولكنه فتاوى وتطبيقات وضعها بشر يخطئون ويصيبون، يعرفون ويجهلون، يعدلون ويظلمون.
ولا بأس، ابتداء، بهذه الحالة في بعدها التطبيقي، ذلك أنه لا يمكن فهم الدين وتطبيقه إلا بأدوات إنسانية؛ من اللغة والفهم والتأويل والتفسير والتجارب والأمثلة. وبما هي إنسانية، فإنه يعتريها حتما الخطأ والجهل، والنقص والهوى والمصلحة، والعدل والظلم، والنسبية وعدم اليقين؛ فلماذا نقدمها على أنها الدين وأنها من عند الله؟ لماذا لا نريح أنفسنا من كل هذا العناء ونعترف لأنفسنا بأن ما نفعله أو نفهمه هو "أنسنة"، وأننا نفهمها ونطبقها على أنها كذلك؟
(الغد)