هناك احتقان اجتماعي وغضب؛ هناك ضيق وحنق على الحكومة والبرلمان والمسؤولين. فما هي مشكلتنا؟ هل ما يُغضب الناس هو غلاء الأسعار؟ راجعوا سنة واحدة من دون احتجاج على الأسعار في وسائل الإعلام!
الأسعار دائما مرتفعة بالنسبة لما يرغب فيه المستهلك. هل المشكلة في انخفاض الأجور؟ راجعوا سلم الرواتب، ولن تجدوها أسوأ مما كانت في أي وقت، كما ستلاحظون أنها تضاعفت عدة مرات على مدار العقود، بنسبة ارتفاع كلف المعيشة وانخفاض قيمة العملة. وكل صاحب تقاعد سيشكو من ركود راتبه التقاعدي. لكن الحقيقة بالنسبة لكثيرين تقول إن مجموع ما قبضوه من التقاعد زاد أضعافا عما قبضوه من الراتب. بمعنى أنه قد يكون الموظف أو العسكري خدم عشرين سنة بمعدل راتب 20 دينار شهرياً، وهو متقاعد منذ 40 سنة، وتقاعده الآن 200 دينار شهريا.
أين المشكلة الحقيقية مع الناس؟ هل هم غاضبون من المواقف السياسية؛ دخولنا التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش"، أو قبول شراء الغاز من إسرائيل؟! هذه أمور تصلح لأحاديث المجالس والاستعراض تحت القبة، أكثر منها لتشكيل الموقف الحقيقي للناس. لا أحد عقليا وعاطفيا يرغب، بأي شكل من الأشكال، في التعاون مع إسرائيل الغاصبة المحتلة، لكن لا أحد يغفل عن حقيقة موازين القوى التي فرضت الأمر الواقع. وقد كانت تظهر بعد كل هزيمة فئات جديدة تتهم من قبلها بالتخاذل، لتنتهي بدورها إلى نفس النتيجة. وكانت حركة "حماس" آخر الواصلين على نفس النهج، أما "القاعدة" وأخواتها، فقد أعفت نفسها سلفا من هذه المسؤولية، وقدمت عليها مجاهدة السلطات الحاكمة في بلاد الإسلام.
لا شك في أن الاقتصاد والمعيشة والبطالة هي الأهم بالنسبة للمواطن. لكن من قال إن الفرد اليوم يعيش ويستهلك ويحصل على أقل مما كان يحصل عليه بالمتوسط قبل عشر سنين أو عشرين أو خمسين سنة؟ إن أسرة فقيرة اليوم لديها من وسائل الرفاهية، وتستهلك أكثر من أسرة متوسطة الحال في الماضي.
وأي شخص الآن ينفق على جهازه الخلوي أكثر مما كانت عائلة كاملة تنفقه على الطعام والشراب. لكن ثمة مشكلة عميقة أيضا في المجتمع الاستهلاكي اليوم، بين ما هو متوفر ومعروض وبين القدرات الفعلية للناس. ثم إن كفاءة السلع والخدمات، كما يقدمها العالم اليوم، تتقدم بمسافة هائلة، مما يعمق أزمة الحضور والهوية. ونجد العالم يسابق نحو المستقبل، ونحن في صراع مع الذات حول الماضي والحاضر.
لا أستطيع الادّعاء بأن لدي التشخيص الصحيح والدقيق للمشكلة، بل أطرح الموضوع للتفكر والتأمل، لأنني لست مقتنعا بأي سبب على حدة من تلك التي تظهر عادة على السطح. ويبدو الحنق على الحكومة والمسؤولين نوعا من تعليق الأزمة على مشجب الغير.
نحن في أزمة، وهناك شيء ما في الثقافة والقيم والسيكولوجيا الاجتماعية تدهور كثيرا ولم نتنبه له. إن التفاؤل والإقبال والإيمان بشيء أفضل، تراجعت وحل محلها الانكفاء والماضوية وعدم الرضى. وبالتوازي، يتفاقم الفصام والازدواجية بسبب الفشل، وتتسع الهوة بين الخطاب والفعل، ويغلب الادعاء على الواقع، وإحلال البلاغة اللفظية محل الكفاءة والمهارات الفعلية. ونحن بالعادة نطلب أكثر مما يحق لنا، ونعطي أقل مما يستحق علينا؛ نستهلك بأكثر مما ننتج، ونتوقع من غيرنا غير ما نتوقعه من أنفسنا.
مشكلتنا في الجوهر حضارية. ونحن في متاهة، يجب أن نجد الطريق للخروج منها ومواكبة العالم في تقدمه. لكن هذه الأيام نحن لا نطلب سوى النجاة من الجحيم الذي يحيط بنا!
(الغد)