أبناؤنا أكثر من أكباد تمشي على الأرض
سامر حيدر المجالي
07-04-2008 03:00 AM
لست أكشف سرا مهما إذا قلت أنني قد اكتسبت مؤخرا خبرات عظيمة في مجال العناية بالأطفال الرضَّع وتلبية احتياجاتهم . فقد شاءت العناية الإلهية أن تُحقِّقَ لي حلما طالما انتظرته بشوق ولهفة ورصيد لا ينفد من الصبر وحسن الظن بالله ، فغدوت أبا " مُكعَّبا " مرة واحدة ، أي أنني رُزقت بثلاثة توائم جاءوا إلى الدنيا سوية حاملين معهم سحر الحياة وهيبة الحضور الآدمي ، وجاعلين من بيتي الهادئ المتواضع خلية نحل لا يهدأ لها قرار في ليل أو نهار .
وأمام هذا الحِملِ الذي تنوء به الجبال الرواسي ، فالأم أعانها الله على ما واجهته من متاعب بدأت منذ مراحل الحمل المبكرة وما زالت مستمرة حتى الساعة ، وجدتني مضطرا إلى أن أشارك بفعالية في العناية .. إرضاعا وتحفيظا وسهرا وغناء ولعبا وقياما بكل ما تستلزمه الحياة مع هذه الكائنات الإنسانية المُستَجِدّة ، لأدرك وبوضوح ما الذي يعنيه أن تفكر بأن يكون لك استمرار على ظهر البسيطة وأي ثمن ندفعه في مقابل بحثنا الدائم عن الخلود الذي لا ندركه إلا في أبنائنا وذرياتنا .
وقد ابتدأت طريقي مع أطفالي بأن كَسَرتُ بعض الأوثان التي أوجدتها عادات وتقاليد بالية فنيت أيامها ولم يقو الفناء على الوصول إليها ، فقد كان عيبا أن يدخل الرجل غرفة نوم زوجته أثناء نفاسها ، فتحديت القانون ودخلت . وكان عيبا أن يُقَبِّلَ الأب ابنه خلال الأشهر الأولى من عمره ، فتجاوزت العرف وقبّلت . ناهيك - إلى جانب هذين العرفين الوثنين - عن ما قد يلقاه أب يُرَضِّعُ ويُحَفِّظُ ويفعل الكثير مما مازال عند الكثيرين مهمة نسائية فقط .
إن قدر كل واحد منا في هذه الحياة أن يواجه الأوثان .. فإما أن يحطمها وإما أن تحطمه .
والعجيب في أمر هؤلاء الأطفال أنهم على درجة عالية من الذكاء وقوة الشخصية ، فهم عبارة عن أرواح أدمية لم تتدنس بعد بما دنَّسَنا نحن الكبار من جبن ومراوغة وكذب وخداع وشخصيات حربائية تميل حيث مالت الريح وتتلون بلونها ، إنهم يعبرون عن ما يريدونه بكل وضوح وقوة ، وهم لا يتوقفون عن إعلان احتجاجاتهم المستمرة على كل كبيرة وصغيرة . يصرخون فلا تمتلك إلا أن تنصاع لرغبتهم وتذعن إليهم متجاوزا كبرياءك وجبروتك وآفاتك الإنسانية المستترة التي يكشفها التعامل مع هذه الأرواح الوادعة . تكتشف أنك بكل ما في جعبتك من أحكام وقواعد راسخة ونظريات ( سخيفة !! ) في تفسير الكون والحياة ،، تكتشف أنك أضعف من أن ترفض لهم طلبا أو تعصي لهم أمرا وذلك لأنهم يعبرون عن حقائق ناصعة بيضاء .. الصدق مبتداها والوضوح منتهاها ، أما أنت فغارق منذ زمن في متاهات وضغوطات نفسية أنْسَتْكَ كيف تكون المطالبة بالحق وكيف ينبغي للإنسان أن يعبر عن شخصيته .
هذا هو السبب الذي يجعل منك الطرف الضعيف في المعادلة ،، ومنهم الطرف القوي الذي يفرض إرادته ومنطقه . انه عنفوان الصدق الذي امتلكوه وافتقدته أنت ، فغيَّرَ حتى من فحوى القانون الذي يقول أن لكل فعل رد فعل مساويا له في القوة ومعاكسا له في الاتجاه ، ليجعل للفعل رد فعل مساويا له القوة ولكنه يسير معه بنفس الاتجاه خاضعا لسلطانه مؤتمرا بأوامره .
ألا ترون أن أنصع حقيقة كونية قد عبر عنها طفل رضيع هو عيسى بن مريم عليه السلام فكانت حجة لازمة على قومه إلى يوم الدين ؟ وهل هناك ما هو أنصع من حقيقة التوحيد ؟ وهل أختلف البشر في إنسان اختلافهم في عيسى بن مريم ؟ وهل يفض الاشتباك في اختلاف بهذا الحجم إلا الحق الناصع الذي نطق به الرضيع في مهده ؟ غير أن الإنسان كان أكثر شيء جدلا .
وهل تظنون أن الحُجَّةَ قامت على قوم العابد جريج لمجرد أن الرضيع قد تكلم ؟ لا ليس الأمر كذلك !! فالحُجة قامت بصدق الكلام الذي قاله الرضيع ، لأن الصدق في حالته هو الاحتمال الذي لا يمكن مناقشته أبدا ، وكَذِبُ الرضيع أمر أدهى وأمر وأصعب بمليون مرة من قدرته على الكلام ، وان كان كلامه في حد ذاته معجزة .
الطفولة بما هي انتقال من عالم صغير إلى عالم أكبر تفتح عيوننا على حقيقة استمرارية الوجود الإنساني مهما تغيرت عوالمه واختلفت مراحله ، وانَّ في شكل هؤلاء الأطفال وقد انتصبت ظهورهم وانثنت أرجلهم تماما كوضعية الفارس الذي امتطى صهوة جواده ، ما يؤكد لنا أن راكبا قد ركب لجة هذه الحياة حري به أن يتخذ هذا الوضع وقد علم أنه مقبل على رحلة صعبة ليس فيها قرار ولا سكينة . ولعل في كبر حجم رؤوسهم وعدم استقرارها أو عدم قدرتهم على السيطرة عليها والتحكم بها ما يؤكد لنا أن رؤوسهم قد ثقلت تحت حمل المعارف التي اكتسبها الإنسان يوم علَّم الله آدم الأسماء كلها فتعلمها وأتقنها فاستقرت في تلافيف دماغه وزوايا حافظته . أوليس آدم هو أنا وأنت وذاك وتلك ؟ أو لم يقل بعض الفلاسفة أن كل المعارف محفوظة في عقولنا وأن التعليم والمذاكرة لا تفعل أكثر من أن تكشف بعض هذه المعارف من جديد وتزيل عنها غبار النسيان ؟ إن رؤوس هؤلاء الأطفال الآدميين لتنوء بعلوم السابقين واللاحقين وإنها لأمانة لو تعلمون عظيمة .
أدعو الله يا أحبائي الصغار أن لا يصيبكم ما أصاب أكثر أبناء جنسكم من بني آدم ، الغرور وسوء ظن الإنسان بنفسه ووضعه لها فوق حجمها الضئيل . نحن في هذا الكون كالواقف على شاطئ البحر ، قدماه فوق الرمال .. والماء لا يجاوز أطراف أصابعه .. يظن نفسه قد أحاط بمكنون البحر ونفذ إلى أعماقه ، بينما هو في حقيقة الأمر لا يرى أمامه غير أفق لا ينتهي ، وكل ما يدركه بحق ويقين ليس إلا رمالا رخوة تحت قدميه العاريتين .
samhm111@hotmail.com