استمعت إلى متحدثين في إحدى الندوات المنعقدة حول موضوع تدهور أسعار النفط، والتسارع المذهل نحو الهبوط الذي طرأ عليها خلال شهور معدودة، فبعد أن كان يراوح حول «120» دولارا، وصل الآن إلى مادون «60» دولارا، وما زال مرشحاً للهبوط، في ظل إزدحام الأسواق بالانتاج الفائض، رغم الحرب الدائرة في العراق وسوريا وليبيا واليمن، التي كان من التوقع أن يكون لها أثر معاكس، في ظل الضرر الكبير الذي لحق بمصادر انتاج النفط من حيث الاستخراج والتكرير والتصدير والنقل.
كثير من الدول المتقدمة شرعت بتأمين مستقبلها عن طريق تأمين احتياجاتها من الطاقة عبر المصادر البديلة، مثل استغلال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها ،والاتجاه نحو تصنيع المركبات الهجينة التي تدمج بين النفط والكهرباء، تمهيداً لمرحلة السيارات الكهربائية بالكامل، وهي قادمة لا محالة، بالإضافة إلى المصادر الأخرى، مما يجعل الاعتماد على النفط يتراجع في المستقبل إلى درجة ضئيلة بشكل مؤكد، وهذا يحتم على الدول النفطية الاستعداد لهذه المرحلة القادمة، والتكيف مع متطلباتها.
المتحدثون في هذه الندوة معظمهم من الدول العربية الخليجية، ومن أصحاب الاختصاص والنظرة الاستراتيجية، ومنهم رجال ونساء، وقد كان حديثهم عميقاً ومهماً ويمس واقع الأمة ومستقبلها ،ويستحق هذا الحديث مزيداً من الانضاج، ومزيداً من الاهتمام، ومزيداً من النشر والتعميم، رغم التأخر الكبير في الشروع والبدء في محاولات التكيف مع الواقع القادم الذي يحمل كثيرا من معاني المرارة .
أكثر ما يلفت الانتباه في هذا الحوار استخدام مصطلح «لعنة النفط» حسب تعبير بعضهم وتأكيده بأن النفط العربي تحول إلى لعنة، رغم أنه جاء في ثوب نعمة، ويعلل أصحاب هذا المصطلح الاصرار على استخدامه للضرر الكبير الناتج الذي لحق بالعرب وأهل الخليج على وجه الخصوص، وذلك من عدة وجوه:
الوجه الأول : يتمثل بالتحول الشعبي الكبير نحو الاتجاه الاستهلاكي، حيث أسهم النفط إسهاماً كبيراً في هذا التحول الذي يحمل دلالات ومؤشرات في غاية الخطورة، لأن المستقبل يخبىء عنتاً شديداً للأجيال القادمة التي سوف تجد نفسها وجهاً لوجه أمام الاستحقاقات الصعبة القادمة.
الوجه الثاني من اللعنة يتمثل بعدم استثمار الطفرة النفطية في إيجاد نهضة صناعية وانتاجية قادرة على الصمود ومواجهة التحديات، ويظهر ذلك في العجز الواضح في بناء الاقتصاديات الوطنية القوية، بل أدى إلى إلحاق التشوهات البنيوية بها، حيث يصعب اصلاحها وإعادة بنائها في الوقت المنظور.
الوجه الثالث يظهر في حجم العطب الذي لحق بالعقل العربي، وعدم الالتفات إلى البحث العلمي، الذي بقي يعاني من التخلف والضعف المزري، كما يظهر ذلك واضحاً في مستوى الجامعات العربية على الصعيد الأكاديمي حيث ما زالت عاجزة عن الالتحاق في سلم التصنيف العالمي .
الوجه الرابع للعنة يتمثل بتكالب الاطماع الخارجية على المنطقة والتنافس الاستعماري على تقاسم النفوذ فيها، ووضعها تحت الوصاية المحكمة، والحيلولة دون تمكين شعوبها من الحرية والديموقراطية.
وجوه اللعنة كثيرة وعديدة، وآخرها ذلك الوجه المتعلق بمسار انفاق الفائض المالي في إعاقة الديمقراطية، وتعطيل ثورات الشعوب العربية على الظلم والاستبداد، وتكريس الاقطاع السياسي، وطمس معالم النهوض والتمكين المجتمعي.
(الدستور)