"أقعد" فهذا المقال عن حبيب الجماهير الكرسي، واليك أن تتخيل أي كرسي تريد، كرسي المطبخ كرسي المدرسة كرسي السيارة ، عن أي كرسي تراه بمخيلتك، فالكرسي له شخصية قوية صاحبة أبعاد ، لا ينكرها أي شخص منا ، فهو المنال والطموح للجالس قبل الواقف وهو الجاذب للصغير والكبير وللذكر والأنثى ...
اليوم كعادتي كل صباح استيقظت باكرا قاصدا "الكرسي" فما ان وصلت لموقف "السرفيس" وإذ بأحلامي تحطمت لأن غيري من الطامحين سبقني لذلك الكرسي.. وأي كرسي إنه " الكرسي الأمامي للسرفيس" والذي نعتبره نحن معشر مرتادو وسائل النقل العام الدرجة الأولى في المركبة مما أجبرني للركوب بالكرسي الخلفي أي الدرجة الثانية فيها " .
صراحة سرحت قليلا بمدى حب الأردني للكرسي الأمامي الا أنني وجدت أننا وبالفطرة نحب جميع الكراسي بكل ترتيباتها وأشكالها ومواقعها وليس الكرسي الأمامي فحسب .. فتذكرت جميع "الطوش" التي نشبت بيني وبين أخي الأكبر في سن الطفولة بسبب الكرسي الأمامي لسيارة العائلة ، لما كنا نحسه من شعور بأننا أصبحنا رجالا ولدينا سلطة واحترام ، وما إن جائت الحجة الله يطول بعمرها يحل أبونا الخلاف بقوله ، " لا راح تقعد لا انت ولا هو اقلب وجهك ورى منك الو" ..
أتذكر أيضا عندما كانت سُفرة العائلة عبارة عن بضع جرائد بائتة موضوعة على "السهلة" أي (الارض) فقبيل وجبة الغداء كنا نفترش الأرض نقرأ آخر أخبار الأسبوع الماضي لتلك الجرائد كنوع من أنواع التسلية قبيل هبوط طنجرة المقلوبة أو سدر المنسف.. حيث كانت تلك العادات بمثابة عراقة لتاريخ الغداء الأردني الأسري، الا أننا الآن وبعد أن اشترينا "بالأقساط" سفرة مكونة من طاولة وبضع كراسي خشبية أصبحنا نحس بشعور مغاير إذ وجدنا في تلك الكراسي نوع من الترف الزائف لما كانت تعكسه الدرامى الأردنية آنذاك بأن الفقير هو من يأكل على الأرض والغني صاحب السلطة والنفوذ هو من يجلس على كرسي للأكل ..
أيضا من فروقات الكرسي الأردني أن طالب المرحلة الابتدائية في المدارس الحكومية كان يحلم بتلك اللحظة التي يكبر فيها لينسلخ عن زميله "الملزق" بجانبه بالـ"درج المزدوج" ليشعر بنوع من الاستقلالية التي يشعر بها طلاب المراحل الثانوية بعد أن تصبح كراسيهم فردية ، ليس هذا فحسب بل إن طلاب المدارس الحكومية بالمرحلتين يغبطون طلاب المدارس الخاصة على كراسيهم الخشبة الملونة الخالية من أي خلع أو كسر إذ أن الفارق هنا كان بالرفاهية المنوطة بأبناء الذوات في المدارس الخاصة وبكراسيهم المزركشه..
حتى في الجامعات نجد المتنافسون على المقعد الجامعي -بعد تهذيب المسمى -إذ أنه في حقيقة الأمر "كرسي" أيضا ، فمكرمة أبناء العشاير ومكرمة الجيش وأبناء المخيمات وباقي المكرمات هدفها واحد ألا وهو "الكرسي" الا أن الحائز على ذاك الكرسي غالبا ما يكون من أبناء المسؤولين والذوات فالكراسي محجوزة لهم قبل بدء المنافسة أصلا..
ولشدة أهمية الكرسي في حياتنا كان للجغرافية الأردنية نصيب في تسمية أحد جبال العاصمة عمان بجبل الكرسي وهو من الأماكن التي لا يدخلها سوى "المقرشون" وفيه أيضا موقع لأهم الأجهزة الأمنية الأردنية الحساسة كما أن من يسكن به هم من أغنى وأرقى الطبقات الأردنية ، وسعر متر الأرض فيه بحجم سعر الدونم أو الدونمين للوادي المقابل له "وادي السير" ..
الكرسي في الأردن غريب عجيب، علاقته مع المواطن علاقة طردية ، يتنافس عليه المتنافسون بكل مكان وزمان، تماما كما هم مرشحو الانتخابات البرلمانية الأردنية فهدفهم واضح وصريح ألا وهو الكرسي تحت القبة ليكونوا خير ممثلين للشعب بجلوسه .
لهذا السبب لمنا "هند" على اصرارها بالوقوف داخل المجلس ولم نلم من قال لها من النواب بل من الشعب كله "أقعدي يا هند " لا كرها بالنهوض بل حبا بالكراسي ..
لا بد لنا كشعب يعشق الـ"قعدة" أكثر من النهضة بأن نسأل أنفسنا سؤالا في غاية الأهمية، يا ترى من أغلى على قلبك "المفرمة" أم الكرسي الهزاز !!!