لم تغير المناقشات النيابية حول اتفاقية الغاز مع إسرائيل من مواقف المؤيدين والمعارضين. الطرفان ظلا متمترسين حول وجهة نظرهما. لا يتوفر لدينا قبل جلستي النواب ولا بعدهما استطلاعات رأي علمية لنسبة المؤيدين أو المعارضين لمثل هذه الاتفاقية. لكن ما يمكن ملاحظته من الحوارات العامة مع المواطنين، أن هناك كتلة وازنة من المترددين، أو الحائرين.
كتلة المترددين هذه بلا موقف حاسم؛ فهي من جهة تنظر إلى إسرائيل كعدو، وترفض التطبيع بكل أشكاله، لكنها في نفس الوقت لاتستطيع تجاهل الاعتبارات الاقتصادية الكامنة خلف صفقة الغاز، وحاجة الأردن لمصدر طاقة رخيص يخفف من أعباء فاتورة الطاقة التي أثقلت كاهل الاقتصاد، والمواطنين.
رئيس الوزراء عبدالله النسور عندما أدلى ببيانه في ختام مناقشات النواب، كان في واقع الأمر يخاطب شريحة المترددين وليس التيار العريض من النواب المعارضين للاتفاقية. فالنسور نائب من قبل أن يكون رئيسا للوزراء، ويعلم أن اعتبارات الشعبية تحكم سلوك معظم النواب.
بعض من المترددين الذين استمعوا لخطاب النسور، انتقلوا ولو بحذر إلى صفه. وقال عدد منهم لكاتب المقال إن النسور كان منطقيا ومقنعا.
بيد أن هذه الشريحة وبحكم موقفها غير المتيقن، يمكن أن تبقى متأرجحة بين التأييد والمعارضة، وتتخذ مواقف متغيرة تبعا لما تتلقى من معلومات عبر وسائل الإعلام. فالأمر في نهاية المطاف يعتمد على قدرة كل طرف في حشد الأدلة العلمية والمنطقية لاستمالة الجمهور.
لكن ما قيمة النقاش من أصله مادامت الحكومة قد حسمت أمرها وقررت السير في إجراءات إبرام الصفقة، كما صرح أكثر من وزير؟
في اعتقادي أن الوزراء الذين استعجلوا إطلاق التصريحات بعد جلسة النواب، ارتكبوا خطأ فادحا، قد يبدد المكاسب التي حصدها رئيس الوزراء من خطابه تحت القبة.
كان ينبغي على الوزراء أن يظهروا قدرا من الاحترام لمجلس النواب الذي أنهى للتو نقاشا ماراثونيا حول الصفقة، أفضى إلى التوصية بعدم توقيع الاتفاقية.
نأمل أن لا يكون موقف الوزراء المتصلب بمثابة فرمان حكومي بإغلاق باب النقاش. فخطوة كهذه ستدفع بمعظم المترددين إلى الانتقال إلى صف المعارضين للاتفاقية.
إن أفضل ما يمكن أن تفعله الحكومة اليوم هو الإنصات إلى شريحة المترددين، ورصد سلوكهم. بمعنى آخر يتعين على الحكومة أن تتخذ هي بذاتها موقفا مترددا. ذلك سيمنحها فرصة لمقاربة المشهد من أوسع الزوايا، والنظر بموضوعية لكل الخيارات والبدائل، دون اندفاع مسبق لخيار الغاز الإسرائيلي.
صحيح أن الحاجة ملحة لمصادر الطاقة الرخيصة، لكن مايزال أمامنا وقت قبل إقفال باب النقاش. خطاب الحكومة يجعل من الغاز الإسرائيلي الخيار الوحيد المتاح، بينما يقدم المعارضون سلة مليئة بالخيارات البديلة، بعضها واقعي، وبعضها الآخر غير عملي في هذه المرحلة على الأقل. رئيس الوزراء من جهته، ناشد لا بل تحدى النواب أن يقنعوا بعض الأشقاء العرب ببيع الغاز للأردن بأسعار تفضيلية.
دعونا نعيد فحص جميع الخيارات من جديد، لنصل إلى توافق فعلي حول أفضل المتاح. ترددوا قليلا قبل التوقيع، لإننا إن وقّعنا الآن فسندمن على الغاز الإسرائيلي كما يأمل الوسيط الأميركي. والمدمن، كما تعرفون، سيكون مستعدا لتقديم أي تنازل من أجل جرعة "غاز".
(الغد)