كان صدور تقرير عن منظمة دولية حول حقوق الإنسان أو الحريات الصحفية في الأردن، كفيلا بخلق حالة استنفار حكومي للرد على ما ورد فيه، وتفنيد بعض الروايات المنسوبة لنشطاء أو صحفيين تعرضوا لانتهاكات في مجال الحريات.
حاليا، لم يعد الأمر كما كان من قبل. السلطات الحكومية أصبحت أقل حساسية إزاء انتقادات المنظمات الدولية والمحلية حول قضايا حقوق الإنسان.
لقد حصل هذا التحول على مرحلتين، ولسببين مختلفين. المرحلة الأولى، تمثلت في التعديلات التي أجرتها الحكومة على قانون المطبوعات والنشر. كان الهدف من تلك التعديلات إخضاع المواقع الإلكترونية "الإخبارية" لرقابة القانون، للحد مما تسميه الحكومة، التجاوزات المهنية والأخلاقية.
المرحلة الثانية، تمثلت في التعديلات التي طالت قانون منع الإرهاب؛ لتغليظ العقوبات على مرتكبي الجرائم الإرهابية، وتوسيع قائمة الجرائم المشمولة بالقانون. وجرى هذا التعديل كمحاولة للاستجابة لتحديات الوضع في المنطقة، وبروز تنظيمات متطرفة في دول الجوار، والتحاق مئات الأردنيين بها.
ولسنوات مضت، كان نشطاء حقوق الإنسان وشخصيات قانونية يضغطون بقوة، عبر البرلمان ومختلف الوسائل المتاحة، لإلغاء محكمة أمن الدولة، أو تقليص صلاحياتها قدر الإمكان. إلا أن التعديلات الأخيرة على قانون منع الإرهاب، منحت هذه المحكمة الخاصة سلطات أوسع.
لا يمكن الجزم بأنه كان لدى السلطات الحكومية نوايا مبيتة للحد من الحريات العامة في البلاد. لكن ما هو مؤكد قطعا أن القلق، لا بل والخوف الشديد من انتقال مناخات الفوضى إلى الأردن، وزعزعة الاستقرار الأمني، دفع إلى تبني خيارات أكثر تشددا، انعكست بشكل ملموس على هامش الحريات المتاح، وأضرت بمنظومة حقوق الإنسان.
ولقد راهنت الحكومة، ومعها مؤسسات الدولة الأخرى، على حساسية المواطنين الشديدة للأمن، لتمرير التشريعات وما تلاها من إجراءات. وبالفعل، فإن ردود الفعل العامة على التوسع في توقيف المتهمين، ومحاكمتهم بالجملة أمام محكمة أمن الدولة، ضعيفة جدا إذا ما قورنت بما كان يحصل سابقا من نشاطات تضامنية.
في الأسابيع الأخيرة، صدرت عدة تقارير لمنظمات معنية بحقوق الإنسان، كتقرير منظمة "هيومن رايتس ووتش"، وحمل انتقادات لاذعة لسجل الأردن في مجال حقوق الإنسان. كما صدرت تقارير لمنظمات معنية بحرية الصحافة، أظهرت تراجع الأردن على سلم التصنيف العالمي.
لم تكترث السلطات بهذه التقارير، ولم يصدر أي تعقيب عليها. ومن المرجح أنها ستتعامل مع تقارير مماثلة في المستقبل بنفس القدر من التجاهل. فالسائد في الأروقة الرسمية أن ما تقوم به الأجهزة الحكومية من إجراءات، هدفها حماية أمن المجتمع واستقراره، وتعقب الأشخاص المتورطين في نشاطات إرهابية يمكن أن تمس أمن واستقرار المجتمع.
هذه حجة قوية بلا شك، يصعب مجابهتها بنفس المنطق السابق، خاصة أن التدهور المستمر في دول الجوار يدفع بالكثيرين إلى اعتبار الأمن والاستقرار أولوية على الحريات العامة. في الأماكن العامة، صار الناس أكثر تفهما وقبولا من السابق لإجراءات التفتيش والتدقيق في الخصوصيات؛ لقناعتهم أن مثل هذه الإجراءات هي لمصلحتهم.
لكن، سيكون أمرا كارثيا أن تُستغل حاجة الناس للأمن كمدخل لمصادرة حرياتهم، وأن تتحول الحرب على الإرهاب إلى غطاء لتصفية الخصوم السياسيين، واحتواء وسائل الإعلام المستقلة، وتكميم أفواه نشطاء حقوق الإنسان.
إن السياسة الحالية تمضي على خيط رفيع، ولم تنزلق بعد. لكن إن تركت من دون رقابة، فإنها ستتحول إلى "مكارثية" مع مرور الوقت.
ينبغي أن لا نفرط بحساسيتنا تجاه الانتقادات لواقع حقوق الإنسان في الأردن، مهما كان رأينا في تقارير المنظمات الدولية، لأننا بذلك نخسر ميزة جعلتنا على الدوام أفضل من جيراننا.
(الغد)