في كل مرة تتعرض الحالة السياسية والاقتصادية الى منعطف حرج او قرار استراتيجي يظهر مصطلح المصلحة الوطنية العليا وضرورة السير في هذا الطريق دون غيره بوصفه مصلحة عليا ويتم تكسير كل البدائل تحت لافتة هذا المصطلح وسبق للشارع الاردني ان عانى من مصطلح مشابه او قريب الدلالة واعني مصطلح « من فوق « الذي انتجه المحافظون الجدد في السياسة الاردنية وتم التخلص منه ودفنه بفضل الجهد الملكي الخالص، ولم نفرح كثيرا بدفنه حتى انتج عقل اليمين المحافظ مصطلحا جديدا اسمه المصلحة الوطنية العليا واضعين انفسهم حرّاسا على المصلحة وضامنين لحسن سيرها وسلوكها مع اغلاق كل النوافذ والطُرق لمرور اي رأي مخالف لهم تحت شعار المحافظة على المصلحة التي لا تراها الأعين الاخرى وكأن المصلحة الوطنية كائن خرافي يستطيعون رؤيته ببركاتهم دون غيرهم .
ولم يتم استخدام مصطلح، بضلالة سياسية، كما مصطلح المصلحة الوطنية العليا الذي جرى تمرير كل الخسائر والويلات تحت لافتته، وبطرافة تفوق كل الكوميديا المطروحة في اسواق المسارح العربية والاردنية، وسرعان ما يتم التراجع او تبديل المصلحة مع كل حكومة او وزير، فالمصلحة العليا قابلة للتحول والتغيير مع كل تغيير حكومي او تعديل وزراي، فكل حكومة تضع حدود المصلحة العليا حسب برامجها وكذلك الحال مع الوزراء وسرعان ما تتغير المصلحة وتتراجع ترتيب اولوياتها مع كل سنة علما بأن المصلحة الوطنية العليا ثابتة نسبيا وليست متحركة بهذه السرعة .
المصطلح يجري تداوله من اطراف المعادلة السياسية على التساوي، فالحكومة تتخذ القرار ضمن المصلحة العليا والمعارضة ترفضه حرصا على المصلحة العليا ذاتها، حتى القوى السياسية من نواب واعيان واحزاب ونقابات تنحاز الى القرار او ترفضه ضمن نفس المنطق السياسي ذاته « الحرص على المصلحة العليا « دون طرح سؤال بديهي مفاده، كيف تكون المصلحة بالتناقض الحاد بين موقفين ؟ وهل المصلحة التي يختلف عليها الفرقاء واحدة وعائدة على البلاد والعباد او تعود على القوى السياسية والحكومة القائمة ؟.
وكدليل واقعي على حجم التباين في المصطلح، فإن ارتفاع اسعار النفط مصلحة وطنية حسب تصريحات محافظ البنك المركزي لانها تمنح الخزينة 100 مليون دينار في حين ان انخفاض اسعار النفط وحسب المحافظ نفسه تسهم في تحقيق خسائر شهرية مقدارها 20 مليونا، لن نلتفت الى الفوارق في الارقام اذا ما تم احتساب القيمة السنوية لخسائر انخفاض النفط مقابل زيادته، لكن طوال سنوات سمعنا الحكومة بكل اركانها تشكو من مخاطر ارتفاع اسعار النفط وكلفة الدعم الذي تتحمله الخزينة نتيجة هذا الارتفاع، لنكتشف ان ارتفاع النفط خسارة وان انخفاضه مشكلة .
على الجهة المقابلة او على طرف المعادلة السياسية فإن المعارضة المحلية تدعم العلاقات الطبيعية بين الاشقاء العرب وسبق لها ان غضبت لمجرد الاساءة الى دولة خليجية شقيقة في حين حاولت تعكير اول زيارة لرئيس جمهورية مصر العربية الى الاردن وكلنا مؤمن بدور مصر وريادته وضرورته، وسبق لعضو بارز فيها ان أدان دولة خليجية شقيقة ايضا، فكيف نفهم الدعوة الى ترطيب العلاقات العربية – الاردنية في ظل هذا التناقض الحاد، الا اذا كان مصطلح المصلحة محصورا برغائب الجهة السياسية وبتوصيفها للمصطلح .
تِبعا لضلالية المصطلح فإن الناتج ينسحب على مفهوم الحرص على المصلحة الوطنية العليا من الساسة الرسميين او خارج المنصب الرسمي، فأي سياسي سابق او متقاعد يؤيد القرار الحكومي فهو حريص على المصلحة وغير ذلك فستلاحقه اللعنات، وعلى الجانب الآخر فإن عشرات الساسة والمسؤولين السابقين يصفون المصلحة العليا وحرصهم عليها في ضوء مكان جلوسهم على كرسي المنصب او خارجه، فكلهم أسهم فيما ينتقده الآن وكلهم جلس على طرفي المعادلة وأسهم في تعميق التناقض القائم .
ما نريده ان تتحمل الحكومات تبعات قراراتها دون اي مشجب عاطفي او حديث غير قابل للقياس والمحاسبة مثل المصلحة العليا، وان تتحمل المعارضة وزر مواقفها دون بكائية الحرص على المصلحة الوطنية والمواطن، فالمطلوب محاسبة القرار ومنفذه ومصدره على اساس انه قراره ويتحمل تبعاته .
(الدستور)