يعيش بلدنا على سيل عَرِمٍ من الأنشطة الثقافية، خاصة على صعيد المحاضرات التي يتم إلقاؤها بصورة يومية في عمان على وجه الخصوص، وفي سائر مناطق المملكة على وجه العموم، في إطار زخم أكبر من الأنشطة الثقافية المتنوعة، ومع ذلك فإن المراقب المتفحص، لا يلمس لكل هذا النشاطات أثرًا ملموسًا على المستوى الفردي ولا على المستوى الجماعي، بل ان الملاحظ أن هناك اتجاهًا عكسيًا بين زخم الأنشطة وأثرها في المجتمع، ففي عقود سابقة كانت النشاطات الثقافية أقل مما هي عليه الآن، لكنها كانت أعمق أثرًا وأشد وقعًا.
لقد صار هناك الآن ما يشبه الإجماع الضمني على تدني المستوى الثقافي في المجتمع الأردني، وتراجع الاهتمام الثقافي على قائمة أولويات الأردنيين؛ خاصة فئة الشباب منهم. فأي مشارك في حضور فعالية، أو ندوة فكرية أو ثقافية جادة لن يحتاج إلى كبير عناء ليكتشف ان الغالبية الساحقة من الحضور هم من أبناء الأجيال التي تجاوزت الخمسين من العمر في أقل التقديرات، ويكاد حضور الشباب لهذه الندوات والمحاضرات يكون معدومًا، وهذا مؤشر خطير على حالة الطلاق التي تتعمق بين شبابنا وبين الهم الثقافي الجاد، خاصة ما يتعلق منه بمشكلات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي.. وهو مؤشر لا بد من الانتباه له لمعالجة مسبباته.
ملاحظة أخرى لها علاقة بالحضور والغياب عن قاعات الفعل الثقافي في بلدنا. هي انه صار للحضور علاقة بالمنصب الذي يشغله المحاضر، أو المتحدث في الندوة، دون النظر إلى قيمة ما سيقوله هذا المحاضر، فقد دخل النفاق الاجتماعي إلى ميدان الثقافة ليُسهم بالمزيد من إفساده، خاصة بعد ان صار الفعل الثقافي وسيلة من وسائل البعض لتسجيل حضورهم الإعلامي، بالرغم من أن الجميع يعلمون أن بعض الذين يحاضرون فيهم لا يقرأون ولا يكتبون، لكنهم يوظفون من يكتب عنهم ليقوموا هم بدور المؤدي، ولا نريد ان نقول المنشد. تمامًا مثلما هي الحال في جاهات الأعراس التي صارت محفلاً لتأكيد بعض السياسيين لحضورهم في المشهد، فيما يشبه عملية الهروب من قائمة النسيان. ومثلما يقوم البعض بدور المؤدي في المشهد الثقافي، فإن البعض الآخر من السياسيين يقومون في الجاهات بدور شاهد الزور.
وعلى ذكر الحضور لا بد من الإشارة هنا إلى حقيقة مُرة في مشهدنا الثقافي، ذلك أن المحاضرة أو الندوة كانت تعقد سابقًا لإلقاء الضوء على قضية أو مشكلة، والمساهمة في البحث عن حلّها. لذلك كانت المنابر تترك لأهل الاختصاص، الذين لديهم قدرة، ليس على التشخيص فقط بل وعلى تقديم العلاج، اما الآن فقد صار الهدف الرئيس لجلّ الهيئات التي تنظم محاضرات أو ندوات هو فقط ان تُسجل حضورًا إعلاميًا، بدليل اننا لا نرى متابعة لأيّة ندوة أو مؤتمر بعد خروج الناس من القاعة التي يُقام فيها الفعل الثقافي. وقبل ذلك فإننا نلحظ عدم الترابط في عمل الكثير من المؤسسات التي تتعاطى بالشأن الثقافي، ومن ثم عدم التركيز على مسار واحد بهدف إثرائه، مما ساهم مساهمة كبيرة في تقليل أثر الفعل الثقافي على المجتمع.
كثيرة هي أسباب تراجع أثر الفعل الثقافي في واقع مجتمعنا، خاصة لدى الشباب، لعل من أبرزها، أن الكثير من ما يقال في المحاضرات والندوات يناقض ما يعيشه الناس، ففي الوقت الذي يبالغ فيه الكثيرون من المحاضرين بالحديث عن جمال الواقع، وروعة الإنجاز، فإن الواقع الذي يعيشه الناس يقول غير ذلك.
ومن الأسباب أيضًا، أن فريقًا آخر من المتحدثين يبالغون في وصف الواقع وسوءاته، دون ان يساهموا في تقديم حلول لسُبل الخروج منه، مما يجعل شرائح متزايدة من الناس تعزف عن المشاركة بالفعل الثقافي بسبب مللها من «الحكي» المعاد.
ما نريد ان نقوله: إن المشهد الثقافي في بلدنا مريض، وهذا يعني مرضًا فكريًا، وتخلفًا حضاريًا لا بد من التصدي له.
"الراي"
Bilal.tall@yahoo.com