اللامركزية .. محاولة لفهم وتبديد للهواجس
سمير الحباشنه
03-12-2014 03:54 PM
كنّا في الجمعية الأردنية للعلوم والثقافة وبالتعاون مع مركز الحياة / راصد، قد تداعينا للقاء ضمّ كوكبة من رجالات الدولة ومن مفكريها ومثقفيها وخبرائها الادرايين والاقتصاديين للحديث حول اللامركزية، كمفهوم وكمضامين وجدوى. ومحاولة لاجتراح نموذج للامركزية يناسب الحالة الأردنية، من حيث جغرافيتها وتوزيعها الديمغرافي وضرورتها، كأداة لتنمية متوازنه على امتداد الوطن... طالما تحدثنا عنه.
لكننا مع الاسف لم نتمكن حتى الآن من توزيع النمو الاقتصادي، بل وتحويله الى نماءاجتماعي يصيب كافة مناطق المملكة وقطاعاتها الاجتماعية والاقتصادية. ذلك ان الحالة الراهنة لادائنا الاقتصادي قد جعلت من عمّان (للقياس وليس للتشبيه) كالثقب الأسود الذي يبتلع كل شيء.
(1)
لقد تعاملنا في هذا اللقاء مع اللامركزية على أساس أن جدواها هي تحصيل حاصل.. وهي قناعة متولّدة في الاذهان، لأهميتها كضرورة للنهوض الاداري الرشيق، الذي يُفضي الى تنمية ونمو اقتصادي متوازن. لكنني فوجئت مثل غيري من المقتنعين بأهمية اللامركزية، بأنّ الفكرة لازالت غير مختمرة لدى كثير من الحضور، وكان هناك خلط واضح ما بين اللامركزية كأداة لتنمية المحافظات في كل من القطاعات الانتاجية والخدمية من جهة، وبين الدور المنوط بالبلديات من جهة أخرى..! فالمقارنة هنا غير واقعية، لأنّ مفهوم اللامركزية هو كُل شمولي للتنمية في المحافظات، فيما البلديات إدارات خدمية مختصّة في اطار جغرافي ضيق (حدود البلدية)، ينصبّ جهدها بشكل اساسي على النهوض بالواقع الخدمي في اطار البلدية.
اذًا فاللامركزية ليست ببديل عن البلديات وقانونها واهدافها، فهي كيانية أعم، حيث تُعتبر البلديات ودورها جزءا من كل، ولا تعارض بينهما. بل أنّها أدوار مكمّلة لبعضها البعض، فالمنظور الجزئي لا يجوز أن يطغى على المنظور الكلي الذي تمثّله اللامركزية كأداة للنهوض الاداري والتنموي الشامل في المحافظات.
(2)
بل ولمسنا أنّ لدى البعض هواجس ومحاذير، مردّها الخوف من امكانية عدم نجاح التجربة..! مع اننا لسنا بالمبادرين الأوائل بطرح مفهوم اللامركزية وضرورة تطبيقها على الحالة الأردنية. فكل دول العالم المتقدمة تقريبا، كبرت او صغرت جغرافيتها وعدد سكانها، ذهبت نحو تطبيق اللامركزية، باعتبارها أداة للتنمية الشاملة والمتوازنة. بل وأن دولاً كثيرة ومنها اليابان وألمانيا تنظر الى اللامركزية كعملية لا متناهية، وكلما أوغل النظام الاداري بالذهاب بها قدماً، كلما كانت النتائج الايجابية على الصعيدين الاداري والتنموي أكثر وضوحا وعطاء، بل وتؤدي الى المزيد من التوازن في النمو على امتداد جغرافية الدولة وتوزّعها الديمغرافي.
وبالتالي فان تلك الهواجس والمحاذير من عدم نجاح التجربة ليست سببًا من أن نقلع عن الفكرة برمّتها، ونذهب الى حالة من الجمود بابقاء الحال على ما هو عليه! بل انّ تلك المحاذير والهواجس تشكل تحديا اضافيا لتصميم النموذج الأمثل والمناسب للحالة الاردنية بمواصفاتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية..، وانّ ذلك يتحتم على الحكومة أن تطرح هذا الموضوع لنقاش وطني واسع تستمع به الى كل الآراء، حيث تأخذ بعين الاعتبار الواقع الاردني ودوافع تطبيق اللامركزية، والمطبّات المتوقعة.. الى أن نصل الى رؤية وطنية بادوات عملية كفيلة بمحاكاة متطلباتنا الادارية والتنموية والارتقاء بها الى الطموح المأمول
(3)
كما أنّ هناك مسألة لابد من الاشارة اليها تتعلق بهواجس تمس اللامركزية وأثرها على المؤسسات والثوابت السيادية للدولة، وهذا أمر غير متوقع البته، لأنّ لامركزية المحافظات محصورة في الاطارين الاداري والتنموي، وانّ المؤسسات السيادية وقراراتها تبقى كلها في اطار الحكومة المركزية.. من ألفها الى يائها.
(4)
.. وحتى تكتمل الفكرة، لابد من الاشارة الى بعض من المميزات والاسقاطات الايجابية على الدولة وعلى المجتمع:
- فاللامركزية تحقق مضمون المثل القائل « أنّ أهل مكة أدرى بشعابها»، ذلك أن ابناء كل محافظة وقياداتها المحلية هم الأعرف بهمومهم واشكالياتهم، وبالتالي الاقدر على وضع اولويات ناجعة للانفاق.
- انّ مبدأ اللامركزية سوف يُفضي الى وضع موازانات مستقلة ومحددة لكل محافظة ضمن الامكانات المتاحة للدولة، بما يحقق مبدأ العدالة في توزيع الثروات.
- ان اللامركزية سوف تُؤدي الى ادارات رشيقة متخفّفة من حلقات البيروقراطية في دراسة وتنفيذ المشاريع على اختلافها. ذلك أن دراسة أي مشروع واتخاذ القرار وتنفيذه يتم في اطار المحافظة، مما يسّرع في الانجاز.
وعلينا ان نذكر بأنّ النمط الاداري السائد في الدولة الاردنية اليوم لم يمكننا أن ننفق في أفضل السنوات أكثر من 60% مما يُخصّص في موازناتنا للمشاريع الرأسمالية والخدماتية، نظرا لتعدد الحلقات البيروقراطية وتركزها في العاصمة.
- ان من شأن اللامركزية من أن ترفع الضغط عن العاصمة واداراتها، وتُخفّف عناء المواطنين بالسفر الى عمّان لمتابعة معاملاتهم وما يترتب عليها من اختناقات مرورية واستهلاك للطرق والطاقة وحوادث السير..
- علينا ان نعترف بأنّ مدننا الاردنية في الواقع قرى كبيرة باعتبار انّ كافة الانشطة التجارية والصناعية والعطاءات أغلبها في عمان، وبالتالي فانّ من شأن اللامركزية بأن تدفع بالقطاع الخاص من ان ينقل جزءا كبيرا من نشاطاته الى مراكز المحافظات فتنشط الحركة التجارية والصناعية وتتولد فرص العمل، الأمر الذي من شأنه ان يُخفّف من مقولة أن المحافظات «باستثناء عمان» هي مدن طاردة للكفاءات.
- ان المبدأ الرئيسي الذي تقوم عليه اللامركزية، انّ دراسة المشاريع واقراراها وطرح عطاءاتها وتنفيذها يتم في اطار لامركزي، وفي صلب صلاحية الادارات المحلية في المحافظات، وبالمقابل فانّ الرقابة على كل ذلك وتقييم الانجاز يبقى في أطار الحكومة المركزية، وهي معادلة من شأنها أن تحقق المؤسسية وتنفي تضارب وتداخل الصلاحيات...
- وأخيرا فانّ من ثمار اللامركزية أن يصبح البرلمان في العاصمة سلطة تشريع ورقابة دون أن ينشغل بالقضايا الخدماتية، وانّ من شأن اللامركزية كذلك ان تُسهم باعداد قيادات شابّة في المحافظات، مؤهلة لأن تأخذ طريقها مستقبلا في المواقع القيادية في الدولة.
- واخيرا ان اللامركزية نموذج من شأنه توسيع دائرة المشاركة الشعبية في اتخاذ القرارات التي تمسّ حياتهم ومصالحهم ومن شأنها ايضا الحد من الاداء السلبي للمتنفذين الذين يستغلون المنصب العام كأجندات خاصة مناطقية أو ديمغرافية
"الراي"