الحضارة – حالة ذهنية .. والسلوك مرآتها
د.زهير أبو فارس
02-12-2014 06:48 PM
المراقب لما تعيشه المجتمعات العربية يلاحظ أننا، وفي غالبيتنا العظمى، نعيش حالة شاذة وغير صحية، تتمثل في الخمول، واللامبالاة، والالتهاء بالأمور الصغيرة و التافهة، وخير دليل معبّر عن هذه الحالة المشّوهة للحياة الانسانية هو الصورة التي يبدو بها الناس في المناسبات الاجتماعية المختلفة، او حتى أثناء الذهاب في رحلة استجمام وراحة.
فالكل يأكل أو يشرب أو يدخن (يؤرجل)، أو يعمل جاهداً من أجل كل ما له علاقة بالاكل والشرب والمتع الأقرب الى الغريزية، ولا يهمه البته ما حوله، بل ويسعى الى تسخير كل شيء لهذا الهدف "النبيل"، ولو تطلب الأمر ( وهذا ما يحدث في العادة) الى تدمير المكان المحيط، وتلويث وتخريب البيئة بمفهومها الشمولي.
إن القيم لا مكان لها في مثل هذه المواقف، بل وتنحدر الأهداف في الحياة والتمتع بها، وتُختصر الى شيء واحد – ألا وهو الطعام والشراب وأنماط الحياة البوهيمية المتحللة من قيم المجتمع والتي لا تكترث بالمصير والمستقبل. ولا يمكن أن ترى وسط هذا الجو الغريب شخصاً واحداً يرسم الطبيعة (وما أجملها)؛ أو آخر يعزف على آلة موسيقية؛ أو ثالث يقرأ كتاباً؛ أو حتى يتأمل أو يفكر صامتاً. لقد شغلتنا بطوننا وشهواتنا الى حد أصبحنا عبيداً وأسرى لها، بل وانعكس كل ذلك على سلوكنا وعلاقاتنا الأجتماعية. ولكن، ما أسباب ما نحن فيه، وهل يمكننا الخروج من هذا المستنقع الذي أبعدنا عن الحضارة والتقدم مئات السنين (إن لم يكن أكثر)، ومن سيقوم بهذه المهمة الصعبة؟. لا شك أن الاحباط، وعدم وضوح المستقبل، والجهل، والتخلف، وغياب الأهداف المحددة والواقعية، وافتقاد القدوة الحسنة، وسيادة القيم الأستهلاكية.. وغيرها، هي من الأسباب التي أفرزت هذا الواقع الأليم. وعلى الرغم من الصورة السوداوية، فلا يمكن القبول بهذا الوضع المشوّه كقدر لا بد منه، فالمطلوب الخروج من هذه الشرنقة اللعينة التي نحن فيها، من خلال معالجة الاسباب التي تعطل فكر الأمة، وتهدر طاقاتها، وتؤجل التنمية العربية الشاملة، وتكرس التخلّف والتبعية.
نعم، السلوك الاجتماعي هو مرآة الحضارة التي لا تقاس باقتناء وسائل الترفيه، وما اكثرها، فالحضارة، في المحصلة، حالة ذهنية في الأساس.
إننا على قناعة بأن الخلل لا يكمن في الجينات العربية، فالحل ممكن شرط أن تتوفر الارادة في التغيير نحو الأفضل، وهذه مسؤولية القادة السياسيين والاقتصاديين، ومراكز البحث العلمي الحقيقي، هذا التغيير الذي يجب أن تساهم في انجازه المؤسسات التربوية والأكاديمية والثقافية والهيئات الاجتماعية والروحية، بحيث تعمل جميع فئات المجتمع المدني ضمن توجه واحد، وفي أجواء من الديمقراطية، واحترام الانسان وحقوقه الأساسية، وصيانة كرامته، لتحقيق أهداف واحدة وواضحة، ولتنصهر جهودها في بوتقة المصلحة المشتركة لهذه الأمة، وتفجير الطاقات الابداعية الكامنة فيها. ونحن على يقين من أننا نستطيع الخروج من أسوأ مراحل حياتنا نحو التطور والتقدم، لنساهم، كما ساهمنا عبر التاريخ، في بناء الحضارة الانسانية، من خلال العقل والفكر، وليس من خلال البطن والشهوات والغرق في المستنقع الأستهلاكي.
"الدستور"