غزّة لم تزل جارة البحر، مدينة مئات الأطنان من القنابل، هي وضواحيها تعرَّضت لأعنف قصف وحشي صهيوني، هي المدينة التي قامت من الرماد، قاومت، قَتلت اليهود في عقر قوتهم: في تل أبيب واللد والرملة وحيفا.
هي الفينيق الذي يقوم من الرماد حياً، غزة لا تموت لكنها اليوم بردانة، تغرق في الصقيع والطين، دفء إعادة الإعمار لم يشتعل، أموال المساعدات لم تصل، والمصالحة بين فتح وحماس حصلت ولم تحصل!
برد الخذلان مقدور عليه، فهذه ليست المرة الأولى التي تُعقد فيها المؤتمرات وتهطل فيها وعود المساعدات دون أن تسقط عليها نقطة من دولار. ولا هي المرة الأولى التي تذرو فيها الرياح الأوراق التي كتبت عليها التعهدات من شرفات الفنادق الفخمة لتزيد عبء عامل النظافة صباح اليوم التالي.
غزة تتعرض اليوم لهجمات البرد التي لا تُقاوم لا تُردُّ. صحيح أن المطر نعمة من السماء لكن غزة «بردانة وجائعة وليست عطشى. البيوت التي هدَّمها القصف لم تزل مكوَّمة على حديدها واسمنتها وحجارتها وربما على بقايا أشلاء شهدائها. الأطفال الذين فقدوا دفء آبائهم وأمهاتهم يفتقدون الآن دفء شتائهم. لا محروقات تصلهم ولا حتى صوبة كاز موجودة لديهم، الكثير منهم لا بيوت تأويهم ولا فُرشات حتى من الأسفنج أو «الشرايط « المطحونة تدفئهم!
لا دخل للأطفال بصراعات الكبار الذين يخوضون حروب السياسة من غرف دافئة، وربما من أمام مدافئ حطب على الطراز الفيكتوري، أجواء تناسب الشعر والحبَّ لا الحرب. عظامهم الطرية لا تحتمل معارك كسر الرؤوس أو كسر الخطوط أو كسر العظم. لا دخل لهم بالتنافس على الألقاب ولا بالحرب على الإرهاب.
حكومة الوحدة الوطنية سمعوا عنها و لم يروها. ولا يستطيعون الذهاب إليها وهم لم يزوروها. تحدثهم عن الوحدة الوطنية، وأية وحدة بين شعب محتل من جليله الى خليله إلى أقصى جنوبه.
قضيتهم الأساسية التحرير ودحر الاحتلال. ألم يأتِ هؤلاء على حصان أوسلو ليحرروا الأرض بما فيها غزة؟ وأولئك « المقاومون « الحماسيون المتحمِّسون للتحرير، ألم يعدوا بعدم الاعتراف بالكيان الصهيوني فسمّوا الاعتراف هدنة؟
إذا كان الطرفان جادين في التحرير فليعلنا الحقيقة، حقيقة أن إسرائيل لا ولن تريد السلام ولا الإسلام ولا دينا غير اليهودية.
ها هو كنيستهم يعلن يهودية الدولة التي لم تكن يوما في حقيقتها إلا يهودية والآخرون « أغيار « حللوا قتلهم واستعبادهم. ما يعني أنها تريد أن تطبق مزيدا من الفصل العنصري داخل فلسطين 48 تمهيدا لترحيل الأهل الباقين في يافا وحيفا والناصرة واللد والرملة إلى أراضٍ يسمونها «دولة» وما هي بدولة ضمن مفاوضات قادمة تدَّعي فيها إسرائيل أنها تتنازل عن بعض المستوطنات ليهجَّر اليها فلسطينيو الـ 48 مقابل اعتراف العرب والفلسطينيين بيهودية إسرائيل، مما سيكون أخطر تنازل عربي عن فلسطين التاريخية يعادل تنازلهم الأول في «كامب ديفيد» وهو ما جرَّ على القضية الفلسطينية مآسي الكون وفتح لليهود الأبواب على أوطاننا ومقدساتنا وأرضنا، من السفارات الى «المقاطعة « في رام الله إلى الحكم الذاتي وويلات الانقسام والحرب بين «دولة رام الله» و «دولة غزة»!
غزة تصطك أسنانها من البرد وقلبها على أشقاء عرب أصبحوا لاجئين في خيام التشرد ببركة « الصقيع العربي» لا الربيع العربي!
(الدستور)