عرف التاريخ الإسلامي منذ فجر انطلاقته مصطلح «البيعة»، وتم استعمالها والتعامل معها في عدة مواطن، وفي عدة مجالات متعددة ومختلفة، لها أهدافها وغاياتها المحددة وآثارها المعروفة، مثل بيعة العقبة الأولى والثانية التي هيأت لإقامة الكيان السياسي الأول في الإسلام، ومثل بيعة الرضوان التي سبقت صلح الحديبية، والتي ورد ذكرها في القرآن: «لقد رضي الله عن الذين يبايعونك تحت الشجرة»، ثم تطور مفهومها وفقهها في المراحل المتلاحقة، وتم استعمالها على وجه مناقض لمعناها الحقيقي أحيانا، مما ألحق بها بعض التشوهات، التي نالت من هذا المصطلح وألحقت به أضراراً جمة، حيث أصبح محاطاً بالضبابية والالتباس، وأفرغ من مضمونه الأصيل، مما جعله غير واضح في أذهان كثير من المسلمين وكثير من الباحثين في الواقع المعاصر.
البيعة في أصلها مشتقة من الفعل «باعَ»، وبيَعَ و مصدرها بيع، وبايعَ مصدرها مبايعة، وقيل أنها مأخوذة من الباع أي اليد، لأن البيع كان يتم بالمصافحة كناية عن انعقاد العقد وتمامه، وكذلك المبايعة كانت تتم بالمصافحة، تعبيراً عن الرضى وكمال الإرادة، والبيعة في أصلها «عقد» يتم بين الأمة من جانب والإمام من الجانب الآخر، يترتب عليه حقوق وواجبات متبادلة على كلا الطرفين، فالإمام له حق السمع والطاعة والنصيحة والنصرة، وللأمة حق رعاية شؤونها وتدبير مصالحها وإقامة العدل بين أفرادها وحفظ أمنها ومقدراتها.
ذهب العلماء إلى توضيح معنى البيعة من خلال مجريات التعامل معها في مراحل الدولة الإسلامية في عصورها المتلاحقة، ومن خلال استعمال الخلفاء لها، ومحاولة تأصيل هذا المفهوم من ناحية فقهية شرعية وقانونية، حيث أورد الفقيه القانوني المعروف عبد الرزاق السنهوري في كتابه «الخلافة» أنه تم استعمال البيعة في معنيين مختلفين من خلال التكييف القانوني لمقتضاها:
أ- المعنى الأول : أن البيعة أمر كاشف للسلطة، أي أنها تعرف الناس بالخليفة، وتكشف للعامة عن اسمه وشخصه، وقد يكون قد حصل على الخلافة إما عن طريق العهد والاستخلاف من الخليفة السابق، الذي قد يكون أباه أو أخاه او غير ذلك، أو عن طريق الوراثة، أو أن يأتي لموقع الخلافة عن طريق القهر والغلبة، واستعمال القوة والسيف، وبعد وصوله للموقع واستبداده به، وإحكام قبضته يطلب البيعة من الناس، بمعنى أن البيعة هنا تكون تحصيل حاصل، وتتم بالطلب، او من خلال التلويح باستعمال القوة، أي بالترهيب أو الترغيب، والبيعة الكاشفة حسب هذا التكييف عقد شكلي؛ فهي مجرد «بروتوكول» ،ليس للمبايعين رأي في الاختيار، وليس لهم إرادة فاعلة في منح السلطة أو منعها.
ب-المعنى الثاني : أن البيعة عقد منشىء للسلطة، وليس كاشفاً عنها، بمعنى أن الخليفة أصبح إماماً على المسلمين بموجبها، و تجب طاعته وإنفاذ أمره من خلال مقتضى «البيعة» وبنودها التي تعبر عن إرادة المسلمين الجمعيّة في اختياره، والرضى بإمامته، ولا يسمّى إماماً أو خليفة أو رئيساً للدولة إلّا بعد إعطائه «البيعة»، وهذا ما يؤكده جمهرة العلماء والفقهاء قديماً وحديثاً، حيث يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : أن عمر بن الخطاب أصبح إماماً للمسلمين بالبيعة، وليس بعهد أبي بكر لهُ، ولو أن الصحابة لم يبايعوا عمر ولم يرضوا به لما اصبح خليفة ولا إماماً، وهذا شأن الخلفاء الراشدين من بعده، بمعنى أنهم اكتسبوا شرعية السلطة من خلال هذا «العقد» العام الذي يعقده أهل الحل والعقد، وهم ممثلو الأمة الحقيقيون الذين ببيعتهم تقوم الحجة على الكافة وتنعقد الإمامة، وهذا ما أكده الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما جاءه الثوار بعد مقتل عثمان رضي الله عنه، فقال لهم: هذا الأمر ليس لكم، هذا الامر لأهل بدر، فلا أقبل الإمامة إلّا برأيهم، وعن رضا من عامة المسلمين.
والمعنى الصحيح البين الواضح الرجحان في هذه المسألة: هو المعنى الثاني؛ أن البيعة أمر منشىء للسلطة ومانحة للشرعية، فهي عقد من الأمة للإمام، تمنحه سلطة الأمر والنهي، وتعطيه حق السمع والطاعة، وليسَت البيعة أمراً شكلياً «بروتوكولياً» يؤخذ جبراً من العامة، ولا عبر شراء الضمائر أو استثارة العواطف والضحك على الدهماء.
فالبيعة عقد رضائي كبير وخطير ومهم، يعبر عن إرادة الأمة بالاختيار الذي يمثل الطريق الوحيد المتفق عليه بين مذاهب الأمة المعتبرة في إيجاد رئيس الدولة، امتثالا لقوله تعالى:»وأمرهم شورى بينهم»، حيث أن الإمامة أهم أمور المسلمين العامة واخطرها شأناً على الاطلاق، فلا يجوز الذهاب إلى بيعة أحد جاء عن غير إرادة ورضى من الأمة، ثم يعمد إلى طلب البيعة بعد استيلائه على السلطة، فهذا أمر مخالف لمضمون البيعة ومناقض لغاياتها وآثارها الحقيقية.
(الدستور)