علّق صحفي عربي خلال الحرب الأهلية في لبنان على ما يسمى التصنيف الأيديولوجي السّريع قائلا : هناك من يحكمون عليك من خلال آخر مشهد سواء كان في مقهى او بصحبة صديق على الرصيف، في تلك الأيام صُنّفت حتى المقاهي بين يسار ويمين ووسط وكذلك دور النشر واحيانا الشوارع، وثمة من دفعوا حياتهم ثمنا لخطأ في التصنيف لأن الاشتباك بالبنادق وليس بالكلمات يصيب الناس بالعمى .
وكنّا نظن اننا ودّعنا تلك الايام بلا رَجْعة، لكن ما يحدث الان يثير في الذاكرة الفوبيا كلّها، فبأقلّ عدد من الكلمات التي تطلق جزافا يُحكم على مثقف او مواطن بأنه من هذا الخندق او ذاك وما من سبيل لأي دِفاع في حمىّ وسُعار هذا الاتهام المتبادل، والذي تغذيه ميديا أصابها مَسّ، وأخطر ما يهدد واقعنا العربي ليس هذه الأشباح التي تعجّ بها الجحور من عصابات التّرهيب، بل التعامل باستخفاف مع ظواهر وأشخاص رغما عنهم وبمعزل عن مكوناتهم لمجرد انهم من هذه الطائفة او تلك او من سكّان هذه الحارة او تلك، رغم ان بينهم أناسا تحرروا مبكرا من مثل هذا الارتهان وحلقوا بعيدا عن السائد الموبوء، وحين يصعد من يشاء الى منصّة القضاء لاصدار الفتاوى فإن الحقيقة تصبح في مكان آخر !
هل كان المقصود بالفوضى الخلاقة شيئا آخر غير الاحتراب الأهلي وانتهاك الدولة واستباحة المؤسسات؟ ربما كان الأخطر من هذا كلّه اسقاط منظومة قيم ومفاهيم، بحيث يخلط حابل الحرية بمعناها الدقيق والحضاري بنابل الفوضى بعد تغييب الكوابح كلها ورمي القانون إلى البَحْر !
إن التّصنيف الذي يحدث الآن بالجملة لمثقفين وأكاديميين مصدره الاستسهال؛ فلكي نحكم على مثقف علينا بدءا ان نقرأ او نسمع ما يقول، وليس ما يُنسب اليه، لكن عصر السّرعة في كل شيء لم يُبْق مكانا للتأمل او حتى لمجرد التّريث . وإلى أنْ نقطع هذا المستنقع بكل ما يعج به قاعُه سنكون خسرنا بسبب الاختزال والسرعة في التّصنيف أناسا أسيء فهم اطروحاتهم، ويبدو ان الارهاب اتّسع ليشمل المزيد من العصابات التي تستهدف حرية التفكير لأن شعارها الشّمشوني هو ان مَن لا يقف في خندقها فهو عدوُّها ! وبالتالي لتأتِ النار عليها وعليه !
لكأن عقودا من أوهام الحداثة والثرثرة عن حق الاختلاف لم تكن سوى زَبَدٍ فوقَ سَراب !!!
(الدستور)