أعاد الجدل الذي يدور حول تطبيق عقوبة الإعدام، مسائل العدالة والنزاهة والنسبية وعدم اليقين في الحكم والقضاء والإدارة والفكر والحياة بعامة.
فإيقاف عقوبة الإعدام مستمد من منظومة فكرية وفلسفية صحيحة ومنطقية، وهي أنه لا يملك أحد حق انتزاع حياة إنسان وهبها له الله. ومن بعد منهجي تطبيقي، فإن أحدا من البشر لا يملك الجزم بعدالة حكمه عدالة مطلقة، ولا يملك أحد أيضا الجزم بمعرفته بكل تفاصيل ومعطيات القضية والمشكلة التي ينظر فيها، سواء كانت قضية في المحكمة، أو مسألة فكرية أو علمية أو فقهية، ولذلك فإنه يبقى دائما هناك فرص واحتمال للشك والخطأ.
وبطبيعة الحال، فإنه يجب أن تُعطى فرص الشك ونقص المعلومة واحتمال الخطأ، مجالا في الحكم والقرار، وأن تظل فرصة قائمة لإصلاح الخطأ.. ويظل أيضا ضمير القاضي الذي يجتهد في النظر في الحجج والأدلة والخصومات مطمئنا إلى نزاهته وعدم الخطأ أو الظلم. وحتى الرسول فإنه معرض للخطأ في الحكم، ففي الحديث النبوي: "إنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أنا بشر أحكم على نحو ما أسمع..".
القول بإن الإعدام عقوبة نزلت من السماء هو فهم وتأويل للنص، وليس حكما غير قابل للتأويل، ولا يعني تطبيقها أو القدرة على تطبيقها بالحرفية التي يدعو إليها مناصرو الإعدام والقصاص. فالآية القرآنية: "ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" هي المبدأ العام أو المرجعية التي تقدر على أساسها الأحكام والعقوبات، ولا تعني بالتأكيد إيقاع عقوبة مشابهة حرفيا لما قام بها الجاني. فهل يعني ذلك، مثلا، معاقبة المغتصب والزاني بالاغتصاب والزنا؟ لكنها تعني أو تحتمل معنى المقاصصة بعقوبة أو تعويض يناسب الجناية أو الجريمة التي وقعت، وعلى نحو ما يقدره القاضي والخبراء، وأن يظل الحكم دائما دون حده الأقصى الذي لا يمكن الرجوع عنه أو إصلاحه، وبما يعطي مجالا للشك وتطبيق النسبية وعدم اليقين؛ المبدآن الأساسيان في التفكير والنظر والبحث.
فكما أن القصاص والعقوبة مبدأ ثابت وصحيح يستحضر في الحكم والعقوبة، فكذلك شأن النسبية وعدم اليقين.
والمسألة الإنسانية الثالثة في العقوبة والحكم والإدارة والتفكير بعامة، هي أن الأحكام والأفكار والتأويلات والقرارات محكومة دائما بحكم الطبيعة الإنسانية باحتمالات الجهل والخطأ، والهوى والمصلحة، والمستوى العلمي والعقلي، والقدرة الحجاجية والمنطقية والتجارب والخبرات، والذكريات العميقة والخفية، والعقل الباطن واللاوعي؛ فلا يمكن بحال الفصل بين شخص القاضي والمحامي والمتهم والمشتكي وبين المسألة المنظورة.
وبذلك، فأن تكون العقوبة ما دون الإعدام هي أقرب إلى العدل والطبيعة الإنسانية. وعلى أي حال، فإن عقوبة المؤبد ليست سهلة، ولا تقل ردعا عن الإعدام.
(الغد)