لا يمكن الفصل بين ارتفاع معدلات الجريمة وبين انتشار الفكر الظلامي المتطرف، لدى شرائح اجتماعية متعددة؛ إذ هما يلتقيان في كونهما نتاج فراغ فكري، يمثل إفرازات معطيات عاشها الأردني على مدى العقود الماضية.
القتل والاعتداء وغيرهما من أشكال التطاول على القانون، من بينها سرقة المياه والكهرباء، هي نتاج مراحل سابقة، بدأت تتجلى في تفنن أردنيين في ارتكاب الجريمة، وهي ترتبط بشكل وثيق باتساع فجوة الثقة بين الفرد والدولة. تماماً كما أن التطرف الفكري الذي يغذي الحركات الإرهابية ويمدها بالشباب، هو إفراز لتلك الظروف المعقدة التي مرت على المجتمع؛ لاسيما غياب الحريات وعدم القدرة على التعبير والمشاركة.
بالنتيجة، فإن معالجة هذه المشكلات التي يتسع مداها، تحتاج إلى خطة تتوزع على خطوات وقرارات قصيرة ومتوسطة، كما بعيدة المدى، بحيث تتمكن المؤسسات المختلفة من استعادة هيبة القانون وتطبيقه، لاستعادة الدولة المدنية التي بتنا نفقدها شيئا فشيئا. فالحلول لا بد أن تكون متدرجة، إذ لا يمكن تنفيذها دفعة واحدة، خوفا من نتائج عكسية لها؛ عدا عن أن وضع استراتيجية لمحاربة الجريمة والإرهاب في آن، يحتاج عملا على أكثر من مستوى.
في المدى القريب، يجب تفعيل كل التشريعات الرادعة، ووضع حد لكل أشكال التطاول على المال العام. وعماد ذلك تكريس فكرة أن لا تراجع عن تطبيق القانون على الجميع من دون تهاون، فلا أحد فوق القانون.
أما في المدى المتوسط، فثمة أكثر من مسار للإجراءات المطلوبة. الأول، يتصل بقطاعي التعليم المدرسي والجامعي، لاسيما إدخال أنماط التفكير الفلسفي على المناهج. إذ إن حالة التلف التي أصابت هذين القطاعين أسهمت بشكل كبير في انتشار الفكر المتطرف على حساب التمدن، وجعلت الطلبة اليافعين والشباب صيدا سهلا للجريمة و/ أو الفكر المتطرف.
تحسين الخدمات ضرورة، أيضا، لسد إحدى نوافذ اليأس والشعور بالاحتقان والحنق؛ كونه تحسينا يساعد على التخفيف من شعور المرء بتخلي الحكومات عنه، وتركه بالتالي صيدا سهلا للمجهول. والمقصود هنا، بالدرجة الأولى، التعليم والصحة؛ لتتغيّر قناعات المواطن نحو مزيد من الثقة بالحكومات.
أما المسار الثاني، والذي ستحتاج المجتمعات سنوات لجني ثماره، فيتعلق بالإصلاح الاقتصادي الحقيقي؛ أي المؤدي إلى تخفيف حدة المشكلات الاقتصادية-الاجتماعية، لاسيما الفقر والبطالة؛ وبدء رحلة الاعتماد على الذات، بعيدا عن التلاعب بالأرقام والحقائق لتسويق نجاحات حكومية زائفة. فكل ما تقوله الأرقام عن انخفاض معدلات البطالة والفقر، لا يعني شيئا أمام واقع اقتصادي قاسٍ يعشيه الناس، ويؤمنون أنه يحرمهم العيش الكريم.
الإصلاح الاقتصادي أيها السادة المسؤولون أكثر من مؤشر ورقم تتغنى بهما الحكومة. كما أنه لا يعني شيئا أمام تشريعات تعجز عن استقطاب استثمارات أجنبية، أو إقناع رأسمال وطني بإقامة مشاريع تخفف من الضغوطات على المجتمع. الإصلاح هو أن نمسح من عقل شبابنا القناعة الراسخة لديه بأنه سيلتحق بسوق العاطلين عن العمل بمجرد التخرج من الجامعة. كما أنه إصلاح يطمئن رب الأسرة إلى قدرته على الوفاء بالتزامات أطفاله حتى نهاية الشهر.
المسار الثالث الذي يضعف البيئة الحاضنة للتطرف وارتكاب الجريمة، يتمثل في تقليل الفجوات الاقتصادية الاجتماعية، لاستعادة الطبقة الوسطى بمواطنين مطمئنين إلى حاضرهم، ومتفائلين بمستقبلهم كذلك.
وطبعاً، يظل حاضرا بقوة الإصلاح السياسي كشرط أساسي لمواجهة الجريمة؛ الناجمة ربما عن الإحباط، والظروف المعيشية الصعبة وغياب العقوبة.
وهنا، فإن الطريق لمغادرة منطقة الخطر تتمثل في حزمة جديدة من الإصلاح، جوهرها قانون انتخاب تمثيلي بحق، وتقديم الإسلام السياسي المعتدل كبديل لذاك المتطرف، مع تشجيع نمو العمل الحزبي الحقيقي وازدهار الفكر التنويري الإصلاحي، بدلا من ترك الفراغ يملؤه الفكر الظلامي الذي ينخر مجتمعاتنا ويهز استقرارها.
الوصفة السابقة كفيلة بمحاصرة التطرف الجرمي والفكري في آن. وهي المؤهلة لأن تكون وصفة النجاة مستقبلا من سيناريوهات قاسية وصعبة، ما تزال تطل برؤوسها علينا بين حين وآخر.
(الغد)