جوانب التقصير في تأهيل العربي عديدة لكن من أبرزها ما يتعلق بثقافة الدولة، فهذا المصطلح المتداول على مدار الساعة يشكو من عدة التباسات، خصوصاً في لغةٍ اشتق فيها مفهوم الدولة من الزوال، أو كما قال الشاعر العربي: «هي الأيام كما شاهدتها دول»، يعكس جذر هذا المصطلح في اللغات الأخرى وخصوصاً الإنجليزية حيث يعني الثبات والاستقرار، وقد تبدو هذه الملاحظات أقرب إلى الفانتازيا أو أنها شكلية لكن الحقيقة غير ذلك، فالدولة بمعناها الدقيق وبأقانيمها الثلاثة ربما كانت أهم منجز بشري في التاريخ، فهي أكثر من مجرد عقد اجتماعي أو فقهٍ للحكم رغم أن هناك معالجاتٍ متكررة في تاريخنا لمفهوم الدولة منها ما كتبه السخاوي وابن خلدون تبدو بحاجة إلى إعادة قراءة واستيعاب.
وقد برهنت الأعوام الأخيرة أن القصور في مفهوم الدولة هو الذي أدى إلى التباس بينها وبين نظم الحكم، وكأنها تستبدل كل بضعة أعوام أو عقود. والحقيقة أن الدولة التي يجري تفكيكها قد لا تقوم ثانية على الإطلاق، وما كنت لأطرق هذا الباب في عجالة صحفية لولا ما سمعته بالأمس عبر إحدى الفضائيات من ناشط سياسي مدني، مستولد بالأنابيب من حقه أن يتلقى معونات خارجية لأن الدولة تتلقى معونات، وأضاف، إن السؤال الذي يوجه إليه يجب أن يوجه إلى رئيس الدولة، وهذه بحد ذاتها سابقة بالغة الخطورة؛ لأنها تقبل التأويل والتصعيد في عدة مجالات أخرى، لهذا قد نسمع من فصيل إرهابي يتلقى الأسلحة من أطراف وقوى خارجية أن ذلك من حقه كمعارض ما دامت الدولة تتلقى -أيضاً- أسلحة من خارجها. وإذا قدر لهذه المتتالية أن تبلغ ذروتها فإن المشروع يصبح مَلْشَنة الدولة أي تحولها إلى مجرد ميلشيا ضمن ميلشيات متنازعة!
فهل بلغ الاستخفاف بفمهوم الدولة وكل ما له صلة بالسيادة هذا الحد! وأصبحنا مهددين بالعودة إلى ما قبل أي قانون أو حتى ماغناكرتا؟
الآن نفهم بوضوح الدافع الحقيق لما سمي الفوضى الخلاقة، فالمقصود أبعد من مجرد تحويل دول إلى كسور عشرية أو تقسيمها وفقاً لخطوط طول وعرض طائفية ومذهبية، المقصود هو تحويل الدولة العربية الحديثة على اختلاف منسوب التكون والسيادة إلى سلحفاة بلا صدفة، وإعادة هذه الملايين من البشر إلى قطعان ضالة في الصحارى بحيث يكون التطوير الوحيد الذي أحدثته هو تحويل الغزو المتبادل إلى نمط انتاج له منظروه وأسواقه وفقهاؤه!
(الدستور)