نشأت جماعة الإخوان المسلمين في الأردن عام (1945)، ومارست عملها بطريقة علنية مرخصة،استجابة لطلب تقدم به المرحوم عبداللطيف ابو قورة ومعه ثلة من الشخصيات والذوات الوطنية المعروفة انذاك، ومنذ ذلك الوقت وهي تقيم أنشطتها المتنوعة وفقاً لأحكام القانون والنظام، وتهدف إلى نشر الفكر الإسلامي، وتربية الشعوب على فضائل الإسلام وقيم الخير، وتتبنى فلسفة التسامح والتعاون مع كل مكونات الأمة، وتدعو إلى وحدة الصف والكلمة، ومساندة كل القضايا العربية والإسلامية العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
العلاقة المنسوجة بين الجانب الرسمي الأردني والجماعة كانت تجربة ناجحة ومتميزة على مدار عقود من السنوات، قامت على التفاهم والحكمة والمرونة بين الطرفين، تخللها بعض النتوءات أحياناً، وبعض حالات الشد والجذب التي لم تصل إلى حد القطيعة وكسر العظم، ولكن دائماً كان الجانبان يتوصلان إلى الحل، بفضل وجود العقلاء في طرفي المعادلة ؛ الذين يتمتعون ببعد النظر، والقدرة على استشراف المستقبل، وإجادة قراءة المشهد، وحسن تقدير الظرف السياسي الدقيق، حيث كانت الاطراف تنحاز دائما الى المصلحة الوطنية العليا، وتستجيب الى نداء المسؤولية والواجب.
مرّت الدولة الأردنية في كثير من المفاصل الحرجة، وتعرضت لظروف صعبة تصل إلى مستوى الخطورة أحياناً، ويسجل التاريخ للطرفين دائماً الحرص المشترك على أمن الأردن واستقراره وعلاقاته الموزونة بدول الجوار العربي التي كانت تتعرض إلى جملة من التغييرات الجذرية والعميقة والانقلابات العسكرية، وكانت الجماعة في هذه الأقطار تتعرض إلى الملاحقة والمطاردة والتصفية الشاملة، وقد تعرض قادتهم إلى الاعتقال سنوات طويلة، وصدور أحكام قاسية وصلت إلى تنفيذ حكم الإعدام في أكثر من قطر عربي، وبقيت الأردن دائماً ملاذاً للهاربين من الجحيم، أو جسراً لعبورهم إلى الملاذات الآمنة، وفي هذه الأيام من مرحلة الربيع العربي يسجل للأردن مرة أخرى اتخاذ موقف موزون وحكيم إزاء التطورات الأخيرة التي تحتاج الى مبادلة الحكمة بالحكمة والاتزان بالاتزان.
كنت استمع دائماً إلى مواقف التثمين ولهجة الثناء من قادة الحركة الإسلامية في مختلف الأقطار العربية حول وضع الجماعة في الأردن، وأنها تجربة فريدة ونموذج متميز يستحق الحفظ والصيانة من جانب، ويستحق الدراسة والبحث والتعميم من الجانب الآخر، في ظل تجارب الصدام الأخرى التي كانت تؤول إلى الخسارة الكبيرة التي تطال جميع الأطراف، وتطال مؤسسات الدولة وإنجازاتها، وما يترتب على ذلك من عواقب وخيمة تمس مستقبل الأجيال، ومستقبل الدولة وقوتها، الذي لا يستفيد منه إلّا العدو الخارجي المتربص الذي يسعى إلى إضعاف الدول العربية والإسلامية من داخلها؛ من خلال إشعالها بالصراع العبثي على السلطة بين الأطراف المتنازعة، وإثارة النزاع بين القوى السياسية المحلية.
حركة الإخوان المسلمين العالمية من خلال تجاربها الطويلة ومشاريعها العديدة، وتاريخها الممتد في بقاع كثيرة وصلت إلى نتيجة قاطعة تقوم على مرتكز جوهري كبير يتلخص بضرورة التمسك بالمنهج الإصلاحي، القائم على الفكر والتربية والوعي والحوار مع كل الأطراف المختلفة، والابتعاد بشكل مطلق عن العنف واستخدام القوة ونبذ كل أشكال التطرف والتعصب وكل ما يؤدي إلى إثارة الصراعات المسلحة داخل صفوف الأمة، والتمسك بالثوابت الوطنية وحماية مؤسسات الدولة العامة.
لا بد من إدراك هذه الحقيقة بعمق على مستوى الجماعة في الأردن على وجه الخصوص، ولا بد من امتلاك القدرة على التعامل معها بمنتهى الحكمة والذكاء، من خلال الخطاب السياسي الواضح، والأداء الإعلامي الموزون، المصحوب بدور عملي كبير يقوم على الحضور الإيجابي، والتعاون المثمر مع كل الأطراف الوطنية المخلصة على اختلاف توجهاتها الفكرية والدينية والسياسية تحت سقف الوطن الذي يظلنا جميعاً، والذي ينبغي أن يكون خارج دائرة الخلاف.
الأردن الذي يحظى باستقرار نسبي في وسط إقليمي ملتهب يستحق منا جميعا أن نحافظ على هذا القدر والمستوى من الإنجاز الوطني، وأن نسعى نحو مزيد من القوة ومزيد من الاستقرار، وتقليل منسوب التوتر، وتضييق دائرة الخلاف، وتوسيع دائرة التوافق والمشاركة بين الفرقاء، من خلال تمكين العقلاء والحكماء من أهل المسؤولية من إطفاء بؤر الحريق ومحاصرة نقاط التوتر من أجل تحقيق المصلحة العليا التي تتقدم على المصالح الفئوية والحزبية والفردية، بكل حزم وبكل يقين لا يداخله الشك والريبة.
الجماعة بحاجة إلى تجديد عقلها السياسي القادر على معالجة الاختلالات، وبحاجة إلى جهود منظورة وغير منظورة في تخفيف الحصار المفروض عليها، وفك جدار العزلة الذي يحاول خصومها بناءه حولها، ومحاولة الاستثمار في العلاقات الايجابية مع بعض الأطراف من أجل تحقيق هذه الغاية، وتستطيع الجماعة في الأردن أن تمارس هذا الدورالقيادي الإيجابي من خلال الاستثمار في وضعها المتميز، وأن لا تنساق خلف الانفعال والعاطفة، وأن لا تقع في مصائد الإعلام، ومتاهات أصحاب الأجندات، من أجل تحقيق النجاح بالقيام بدور فاعل على مستوى الإقليم لمعالجة الوضع المتدهور في مختلف الأقطار العربية.
(الدستور)