حين أراد خبير البنك الدولي السابق هانكوك التعبير عن أحدث اختراع أولي لبطالة مقنعة وسخية الأجر لم يجد أفضل من عبارات لتشوسر في حكايات كنتربري الشهيرة، هي أن شهرته وهندامه ومنصبه العالي والمال الوفير الذي يحصل عليه جعلته في مظهره الخارجي الأكثر انشغالاً في العالم، والحقيقة أن هذا المظهر يخفي نقيضه.
إنه أشبه ببورتريه لرجل أو إمرأة الـ إن. جي.
أوز في العالم الثالث الذي ضاعت مئات المليارات من الدولارات في الطريق إليه من خلال المساعدات، فالسماسرة أو من يسميهم الخبير ممرات الاسفنج امتصوا في فترة قصيرة ثلاثة أرباع ما جاء من الشمال الموسر إلى الجنوب المُعْسر، لكن الأمر لا يتوقف عند هذا السطو باسم الإغاثة فقد وظفت البطالة المقنعة سخية الأجر لإجهاض حركات وطنية في العالم الثالث وكان للعالم العربي نصيب واسع من هذه التجارة السوداء، ففي مصر وحدها استطاعت هذه المنظمات تعميم ثقافة جديدة أقل ما يمكن قولها عنها هو أنها سمسارية، فالضحايا هذه المرة هم الذين يتطوعون لما هو أقسى من استئصال الأعضاء، وهو استئصال الشحنة القومية وكأن الإنسان العربي أصبح يعيش بالعلف وحده حتى لو كان منقوعاً في عرقه ودمه وماء وجهه.
وما كتبه هانكوك قبل سنوات كان مجرد طرقات خجولة على هذا الباب، لكنه مهد الطريق وعبده لآخرين افتضحوا المشهد كله وتجلياته المبثوثة في تفاصيل النسيج الاجتماعي ولعل كتاب بنيامين بارت عن رام الله والذي كرس فيه فصولاً لمنظمات الـ إن. جي. أوز، وثيقة دافعة فقد خلقت هذه الثقافة المصنعة بعناية منذ خريف الحرب الباردة طبقة جديدة ممن يضاعفون الثراء على حساب المزيد من الجوع والخراج والتخلف، وهناك مشاريع أنجزت في هذا المجال أفسدت البيئة، وكانت سلبياتها أَضعاف إيجابياتها، لأنها تذكرنا بقصة مأمورية الزير في تراثنا فالخليفة الذي زار أطراف الصحراء واشتكى له الناس من الظمأ أمر ببناء زير يملأ بالماء كلما فرغ منه واكتشف بعد أعوام أن هناك أموالاً أنفقت ولجاناً تشكلت تفرعت عنها لجان لكن ما من زير وما من ماء!
إن جذر هذه الظاهرة يعود إلى ما أصاب العالم من انتكاسات وبعد أن توحشت الرأسمالية، فاليسار في الغرب بدل اتجاه البوصلة وأصبح خندقه مكرساً للبيئة واللون الأخضر وحقوق الإنسان، أما العربي فقد غير الخنادق كلها ليعلن حربه على فقراء بلاده بعد أن يتسول باسمهم ويلتقط اللقمة من أفواه أطفالهم!
(الدستور)