حوار مع الإسلاميين « .. ونهضة فكرية»
بلال حسن التل
16-11-2014 12:30 PM
دَعْونا في المقال السابق إلى ثورة فقهية وتلازمٍ مع هذه الثورة الفقهية التي ندعو إليها، لا بد من ان تشهد الأمة حالة نهوض فكري، يقودها مفكرون تنويريون يفهمون تاريخ الأمة ومسارها، وبيئتها الحضارية، فيقدمون حلولاً فكرية تكون من نبت السياق الحضاري لهذه الأمة، وهذا يعني ان على مفكرينا أيضًا ان يخرجوا من مرحلة التشخيص لحالة الأمة وتجريح واقعها وإدانته، إلى مرحلة استشراف المستقبل وتقديم حلول لمشكلاتها. فهذا هو السبيل للخروج مما نحن فيه من حالة إحباط وتخلف تشكل حاضنة لكل صنوف التعصّب والتكفير.
والثورة الفقهية، والنهضة الفكرية اللتان ندعو لهما، توجبان علينا ان نُحدد المصطلح لنتفق على من هو العالِم هل هو كل من اعتمر العمامة، ولبس الجبة؟ بل هل لبس العمامة والجبة شرط من شروط العالِم؟ وهل العالِم هو خريج كليات الشريعة؟ وفي التاريخ، وفي حياتنا المعاصرة علماء إجلاّء لم يلبسوا العمامة والجبة، ولم يتخرجوا من كليات الشريعة، وأكثر من ذلك، هل العلم الذي نحتاج إليه هو العلم الشرعي المقتصر على العبادات، أم اننا بحاجة إلى كل علوم الحياة؟ إن الوصول إلى الإجابة على هذا السؤال تكمن في القرآن الكريم، الذي دعا إلى التفكير والتدبير في السموات والأرض، وبكل ما فيهما، وقبل ذلك التدبر في الهدف من خلق الإنسان (وهو إعمار الأرض)، وهو الإعمار الذي لا يمكن ان يتم بالصلاة والصيام والحج فقط. بل بالكشف والاختراع، من هنا دعوة القرآن الكريم للتدبر والتفكر بخلق السموات والأرض، ومن هنا كان للعبادة في الإسلام مفهوم أوسع من مفهوم أداء المناسك، ويكفي القول: بأن رسول الله عليه السلام فضل العامل المنتج، على العابد الناسك، الذي يعيش عالة على الناس. وانطلاقًا من هذا الفهم الواسع لمعنى العبادة نستطيع القول: إن العاملين في علوم الشرع وطلاب هذا العلم، أحوج من غيرهم للإطلاع على سائر العلوم الأخرى، خاصة العلوم الاجتماعية لتأتي فتاويهم وإرشاداتهم مبنية على فهم الواقع، دون الخروج على ثوابت العقيدة. وهذا يعني أننا بحاجة إلى إعادة النظر في مناهج المدارس والمعاهد الدينية وكليات الشريعة.. بحيث يتلقى الطالب فيها مواد في علوم الاجتماع، والاقتصاد، والفلسفة ومقارنة الأديان، وقواعد السلوك. حتى يُحسن التعامل مع الآخر بعد ان يفهمه. وبعد ذلك ان يفتي عن علم ومعرفة. فجزء من مشكلة الفتوى عند بعض الذين يتصدون لها تتمثل في عدم الفهم؛ لذلك كان الكثيرون من الصحابة والتابعين يهربون من الفتوى خوفًا من حرج عدم الفهم، ومن ثم الخطأ في الفتوى.
ومثل ضرورة الاتفاق على مصطلح العالم لا بد من الاتفاق على من هو الفقيه، ومن هو المجتهد، فقد صرنا نعيش في زمن كثرت فيه الفتاوى والاجتهادات، وامتطى ظهرها غير فرسانها. بل اننا نحتاج إلى ان نحدد مفهوم من هو الداعية في زمن صار فيه كل من قرأ كتابًا، أو سمع محاضرة هنا، وأخرى هناك، أو انخرط في حزب أو جماعة أطلقت على نفسها لقبًا إسلاميًا يُسمي نفسه داعية.. يُصنف الناس بل ويكفرهم. و»مما زاد الطين بلّة» ان بعضهم صار يربط بين عبوس الوجه ورثاثة الثياب وغلظة القول، وشروط الداعية، وهذا مخالف لمواصفات المسلم الحق الذي لا بد من ان يكون باسم الوجه، نظيف المظهر والمخبر، لين القول أسوة برسول الله، وامتثالاً لتوجيهاته. بل هو مخالف لتعاليم القرآن في أصول الدعوة وأساليبها، ففي القرآن قوله تعالى لنبيه موسى وأخيه هارون عليهما السلام: «أذهبا إلى فرعون انه طغى فقولا له قولاً لينا لعله يتذكر أو يخشى»(طه:44)، وفي القرآن أيضًا: «ادْعُ إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن»(النحل:125)، وفي القرآن: «ولو كنت فظًًا غليظ القلب لانفضُّوا من حولك»(آل عمران:159). فأين جل دعاة اليوم من هذه التوجيهات القرآنية ومثلها التوجيهات النبوية؟ فلم يُرَ رسول الله إلا مبتسمًا وهو القائل: «تبسمك في وجه أخيك صدقة». كما ان الطيب كان يفوح منه عليه السلام، وما خير بين أمرين إلا أختار أيسرهما. فمن أين جاءت هذه الغلظة، وهذا الميل للتطرّف، وهذه الرغبة عند جلّ أبناء الحركات الإسلامية بإقصاء الآخرين، والاستعلاء عليهم، مع ان رسول الله صلى الله عليه وسلم كان شديد التواضع جامعًا للناس، رحيمًا بهم؟.
ومثل العالِم والمجتهد والداعية، كذلك الحال لا بد من ان نكون حذرين ودقيقين في تعريفنا للمفكر. فهل هو كل من كتب منقولاً، أو ردد محفوظًا؟ أم هو من أعمل العقل وجاء بجديد؟.
إن تحديد كل هذه المصطلحات خطوة هامّة على طريق التأسيس للثورة الفقهية، والنهضة الفكرية اللتين نحتاجهما للخروج مما نحن فيه من تخلف تجلى في انقسامات مذهبية، قادتنا إلى صراع دموي يغرق المنطقة بحمامات دم في هذه الحقبة من تاريخ أمتنا.
وحتى تقع الثورة الفقهية المأمولة، فإن علينا ان نتحرر من الإرهاب الفكري، الذي تمارسه بعض الجماعات، وبعض الأفراد الذين يحاولون احتكار الإسلام لأنفسهم، فيلوحون بوجه كل من يحاول التجديد بفزعات التكفير والتبديع والظلال، والزعم بأن باب الاجتهاد قد أغلق. فمن هو الذي أغلق باب الاجتهاد؟ وهل يملك أحدٌ إغلاق هذا الباب أمام من يمتلك أدوات الاجتهاد وشروطه ليفتح الباب أمام أنصاف المتعلمين، ليفرضوا على الأمة من أمر دينها ما ليس منه؟. وأول ذلك الإرهاب والإكراه والتعصّب، الذي يؤدي إلى التكفير، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق.
"الراي"
Bilal.tall@yahoo.com