بيت المعزب الاستاذ «عبدالكريم المصري» في البحيرة شمال السلط وفي تخوم البلقاء جمع ثلة من شباب السلط المثقف الذين يتعاطون الشأن السياسي والهم الوطني المبرح مع بعض الضيوف والمدعويين من أعضاء المبادرة الأردنية للبناء «زمزم»، في امسية سلطية جميلة، وكانت الجلسة غنية بما طرح فيها من قضايا ومسائل وطنية شائكة، واستفسارات دائمة تحتاج إلى حوار صريح ومكاشفة من مختلف الأطراف الفاعلة في المشهد المحلي.
الشباب الذين أكملوا دراستهم الجامعية، وخاضوا تجربة البحث المضني عن المستقر الوظيفي، والذين خاضوا مشاريعهم الخاصة في اكمال دراستهم في مختلف التخصصات، وخاصة في ميدان العلوم السياسية والعلوم الاجتماعية ؛وجدوا أنفسهم وجهاً لوجه أمام جملة من الاستحقاقات الحتمية، وفي مواجهة مفروضة عليهم لا محالة لامتلاك القدرة للاجابة على جملة من الأسئلة الكبيرة التي تنصب أمامهم في كل يوم وفي كل ساعة.
السؤال الأول يتعلق بمستقبل الأردن، ومستقبل الدولة السياسي والاقتصادي والجغرافي، ومستقبل الأجيال القادمة في ظل تدفق موجات اللاجئين المتتابعة عبر كل الحدود، ومن كل حدب وصوب، بلا توقف، وبلا معالم واضحة، وبلا خطط محكمة وبلا رؤية محددة، ودائماً السؤال الكبير لماذا الأردن تخصصت باستقبال هذه الموجات المتتابعة منذ تأسيسها، ولماذا كانت دائماً هي وحدها من تتحمل عبء التغيرات الطارئة في الإقليم كله، ابتداءً من احتلال فلسطين على يد الصهاينة عام (48) ثم (67) ثم عواقب الحرب على العراق، وعواقب الحصار الدولي الذي فرض عليها لمدة تزيد عن عقدين من الزمن، وما زالت أحداث العراق تلقي بظلالها على الواقع الأردني حتى هذه اللحظة، ثم جاءت الأحداث السورية لتجعل من الأردن المستقبل الأكبر لحركة اللجوء الواسعة والمستمرة التي لم تتوقف.
تأبيد قضايا اللجوء وطول الأمد عليها، وما يمتزج فيها من تعقيد وتشابك سياسي عالمي وإقليمي وإسلامي وعربي، وظهور أبعاد جديدة بعضها طبيعي، وبعضها مصطنع، يتداخل فيها النضال والعاطفة، والمقاومة والكرم الحاتمي، والوشائج الدينية والقومية، والسذاجة والاستغفال، والمصالح الناشئة على ضفاف اللجوء والحروب، والمشاكل السكانية وضغط الحاجة ومستلزمات العيش، والانفجارات السكانية عبر ما يزيد عن نصف قرن من الزمن، كل ذلك يتولد منه متوال هندسي من الحاجات والضرورات، وعدد هائل من التشوهات الاجتماعية والقيمية والأخلاقية التي أدت إلى خلق مجتمعات جديدة غير متجانسة وغير مستقرة تعاني من كم هائل من المعضلات المادية والمعنوية .
المعضلة الأولى والاكثر اهمية على الاطلاق؛ التي تحتل قمة الهرم هي معضلة «الهوية الوطنية» التي تشكل ركيزة ضرورية لا يمكن الاستغناء عنها في أي مجتمع بشري على وجه البسيطة منذ فجر الإنسانية وولادة التجمعات البشرية، فليس هناك أشد خطورة على معنى الاستقرار والنهوض والتنمية من ضياع الهوية، أو تعرضها للاستلاب أو التشكيك أو الازدواجية، حيث ما زال السؤال الهوية الأكثر الحاحاً في ضوء القلق المستبد بالشباب والشياب والولدان، نتيجة هذا السيل الجارف من عمليات اللجوء والنزيف المستمر، وغياب آفاق الحل عبر المستقبل المنظور.
سؤال الهوية المحاط بالمخاوف والقلق لا ينفع معه الوعظ الجاف، كما لا ينفع معه التجاهل والتأجيل والمماطلة والتسويف، فضلاً عن لغة التخوين ولهجة التشهير والاتهام، فهذه هي الحقيقة المرّة التي يصل التعبير عنها إلى حد التبريح المضني، والمعاناة التي قد تفضي إلى تطورات وتغيرات غير منضبطة وغير متوقعة في ظل عدم وجود استراتيجية عامة مدروسة تحظى بالتوافق على كيفية الحل و المعالجة والصيانة والحفظ.
الجيل الجديد الذي يعاني من ضيق سوق العمل، وقلة فرص الوظيفة، وزيادة نسبة البطالة خاصة في أوساط المتعلمين وأصحاب الشهادات، وزيادة المزاحمة على لقمة العيش نتيجة تتابع موجات اللجوء والهجرة، سوف يخلق وضعاً صعباً ومتأزماً قابلاً للانفجار، خاصة ونحن نجد أن الحكومات ومؤسسات القرار أكثر انشغالاً بأوضاع غير الأردنيين المقيمين على الأرض الأردنية، من الانشغال بالأردنيين أنفسهم، من حيث لقمة الخبز وأساسيات العيش بحدوده الدنيا، خاصة ونحن نجد أن الدول العربية بما فيها الخليجية لا تفتح حدودها لهذه الهجرات، ولا تستقبل اللاجئين، وتكتفي بالاسهام بحل هذه المعضلة عبر المساعدات وأعمال التطوع وأفعال الخير، التي لا تعالج سوى نسبة متدنية من حجم هذه المشكلة الكبرى، فالأمر أكثر خطورة، وأشد تعقيداً مما يخطر على بال المسؤولين، وما يتم في أرض الواقع لا يدعو للاطمئنان ولا يبعث على الرضا، إذا أردنا التعبير بلغة سياسية هادئة.
(الدستور)