الواقعية السياسية ليست وَهَناً
عمر كلاب
15-11-2014 02:02 AM
تعرّض مصطلح الواقعية السياسية الى تشويه بسبب عدم تحديد دلالة المصطلحات والمفردات والالفاظ المتداولة، فتارة أخذ شكل الانبطاح السياسي والتفريط وتارة حمل دلالة السكوت الإذعاني على مجريات الاحداث ، ولم يلتفت احدا ان الواقعية هي استخدام الادوات المتاحة والقابلة للتطبيق التي تصل الى حدّ اعلان الحرب والغاء اتفاقيات ومعاهدات تسمو على القوانين المحلية هذا على المستوى السياسي، وهناك واقعية اقتصادية واخرى اجتماعية تقود الى نفس المضمون في استخدام المُتاح وتوظيفه على افضل الاشكال لاجتياز اللحظة الراهنة بأقل الخسائر .
اكثر دولة تعرّضت لسوء فهم وصل احيانا حد التشويه بسوء فهم ودلالة الواقعية السياسية هي الاردن، ونستذكر من وحي اللحظة ملك الواقعية السياسية في ذكرى ميلاد المغفور له الحسين بن طلال، الذي تعامل مع الواقع السياسي بحرفية عالية فشارك في حرب حزيران 1967 وذهب الى معاهدة السلام وقاد جبهة الصمود والتصدي ضد كامب ديفيد بإشتراطات الواقعية السياسية ويشاطره الفهم -ايضا- الراحل ياسر عرفات رحمه الله والرئيس السوري بشار الاسد رحمه الله، وجميعهم تركوا بصمة في التاريخ السياسي العربي والعالمي .
سوء الفهم والتشويه أسهمت به كوادر السياسيين الاردنيين الذين قدّموا الواقعية السياسية كوصفة خذلان او تراخ او الاكتفاء بالدعاء دون مزجه بالقطران كدليل على الفعل، واسهمت به كذلك تيارات سياسية محلية سمحت بالواقعية السياسية لدول الجوار مثل: مصر وسوريا ووقفت ضدها داخليا، فجماعة الاخوان مثلا تفهّمت واقع الرئيس المصري السابق محمد مرسي حيال كامب ديفيد وكذلك فعلت الاحزاب القومية واليسارية مع النظام السوري زمن الراحل حافظ الاسد ونجله بشار حيال حدود الجولان .
في الاسبوعين الماضيين نجح الاردن بقيادة الملك عبد الله الثاني في استخدام الواقعية السياسية كمنهج سياسي في التعامل مع حكومة نتنياهو اليمينية، فنجحت واقعية الملك السياسية في تخفيف القيود على الاقصى الشريف والمدينة المقدسة مع استمرار حالة عدم الانصاف الداخلية والعربية على المستوى الاعلامي والسياسي وجزء من المحلي حيال مواقف الاردن ومليكه، وكأن نجاح الواقعية الاردنية يؤذي كثيرين، وبالتتابع فالمطلوب اغلاق ابواب الاقصى بوجه المصلين واستمرار تغيير معالم المدينة المقدسة بإنتظار جيوش الفتح العربي والاسلامي التي لن تصل على الاقل في المدى المنظور .
سلوك الملك في استخدام الواقعية السياسية شكّل صفعة حتى للساسة الادرنيين ممن قدّموا الواقعية بوصفها استسلاما او انصياعا لجبروت القوة، فكانوا ينظرون الى خطوات مثل استدعاء السفير والتلويح بإلغاء المعاهدة وحتى طرح الغائها فعلا، انتحارا سياسيا، وليست واقعية سياسية وثقافة من ادوات الفعل السياسي لدرء الضرر على الاقل لحد الوصول الى جلب المنفعة، فالواقعية تؤكد ان استخدام الاوراق الوطنية بحكمة وحصافة قادرة على تحقيق الغاية .
الدرس الملكي في استخدام الواقعية السياسية بحصافة يجب ان تتعلمه المكونات السياسية الحكومية والمعارضة على حد سواء، فالتعاطي مع الواقع له اكثر من سند فقهي وسياسي، فكلنا قرأ وادرك معنى “ ما لا يؤخذ كله لا يترك جُلّه “ وثمة باب واسع في الفقه اسمه فقه الواقع، ولا اظن ان الفقه كان يقصد التفريط والانحناء بإدراجه فقه الواقع كأحد ابوابه، ولكن سوء استخدام الواقعية وادواتها هو الذي ربطها بالاذعان والتفريط وأسهم سوء مقاصد كثيرين في تعميم ضبابية هذا المصطلح لغايات حزبية وفصائلية.
نحتاج الى مراجعة المصطلح وضبطه ونحتاج اكثر الى المراجعة السياسية والفكرية في قراءة الواقع وتحديد نقاط ضعفنا ونقاط قوتنا بواقعية وبعدها نسير الى اهدافنا الكبرى بنهج يعتمد على موائمة الواقعية السياسية لاستراتيجيتنا القومية، فما تحقق يكشف انّ لدينا اوراقا كثيرة، ولكن علينا توظيفها واستخدامها بحصافة ومهارة .
(الدستور)