عندما يتم تغليف الجرائم بالدين، تزداد بشاعة وترويعاً، وان كانت الجريمة بشعة بالأصل وبحد ذاتها وبغض النظر عن هوية مرتكبها، ولكن ما يجب الالتفات اليه على وجه الخطورة أن يتم اقدام بعض الجماعات أو الأفراد على ارتكاب الجرائم والمفاسد واظهار ذلك أمام الناس والاعلام أن هذه الأفعال كانت تنفيذاً لأوامر دينية، أو ترجمة لتعاليم وأحكام شرعية، فهذا في الحقيقة يمثل اعتداءً صارخاً على الدين أولاً ،واعتداءً اثما على الأمة وتاريخها وتراثها وحضارتها.
لقد بات من الواضح أنه لا يجوز لأحد أو مجموعة أن يطلق على أعماله واجتهاداته اسم «الاسلام» ولا يجوز أن يجعل من هذا الاسم ماركة مسجلة يضعها على انجازاته وبضاعته ،حتى لو كانت جيدة، لأن ما قام به عبارة عن اجتهادات وتطبيقات فردية أو حزبية أو فئوية خاصة، تعبر عن فهمه الشخصي أو فهمه وفهم مجموعته، ولا يعدو ما قام به سوى محاولة بشرية ناقصة في تمثل قيم الدين ومبادئه، وقد تكون هذه المحاولة غير ناجحة أو مغلوطة أو يعتريها كثير من النقص، وهي كذلك، فلا يسمح له أن يلصقها بالدين أو الاسلام،او ان يطلق عليها اسما او عنوانا اسلاميا.
ولذلك نجد في تاريخنا الاسلامي أن المؤرخين أطلقوا أسماء محددة على الدول والكيانات السياسية التي قامت عبر المراحل المختلفة، والتي كانت محاولات بشرية للاقتراب من النموذج الاسلامي النظري، فنجد هناك دولة الراشدين، ودولة بني أميّة، ودولة العباسيين، ودولة الأيوبيين، والفاطميين، والمماليك، والموحدين والأدارسة، وغيرها من السلطنات والامارات العديدة، التي حاولت كلها أن تستلهم القيم الاسلامية في أعمالها وتطبيقاتها وانجازاتها،او ان تشتق رؤيتها العملية من الدين الاسلامي ومبادئه وقواعده.
كل هذه التجارب وهذه الممالك والسلطنات المنسوبة للمسلمين عبر تاريخهم الطويل، تجارب غير مقدسة وغير معصومة، يعتريها كثير من النقص، وفيها أخطاء عديدة بعضها كبير وفاحش، وبعضها صغير ومغتفر، وهناك في مقابل ذلك أعمال جيدة وانجازات ممتازة واشراقات مليئة بالعدل والتسامح، ومليئة بالمعاني الجميلة، ولكنها في الوقت نفسه ليست الاسلام عينه ،ولا نستطيع أن نطلق على أي تجربة منها أنها الاسلام ذاته، مهما كانت درجة القرب أو البعد من النموذج القيمي الاسلامي.
ولذلك يجب أن نعلم أن الدين بوجه عام والاسلام بوجه خاص هو عبارة عن مجموعة من المبادئ والقواعد والأصول، وعبارة عن منظومة قيم نبيلة توجه العقل البشري، والارادة الانسانية نحو الحق والخير والفضيلة، في كل مجالات الحياة، والناس في كل مرحلة زمنية وفي كل مكان وجدوا فيه قد بذلوا جهدهم في محاولة تمثل هذه القيم، وانزال هذه المبادئ والقواعد والأصول على الواقع ،تطبيقاً عملياً وفق استطاعتهم، ووفقاً لما لديهم من علم ومعرفة وخبرة، حيث أنها تتفاوت من عصر الى عصر، وتتباين من مكان الى اخر ؛بحسب ظروفهم وأحوالهم وقدراتهم، وما تيسر لهم من امكانات، وبمقدار ما حالفهم التوفيق والرشاد في معرفة الصواب والاقتراب من الحق.
وفي هذا السياق أجد من الواجب وفي هذا الوقت على وجه التحديد، على جميع الأحزاب والجماعات والدول المنتسبة الى الاسلام أن تبتعد عن الصاق اسم الاسلام بأعمالها وانجازاتها السياسية، وأن تبحث عن أي اسم أو شعار يعبر عن اجتهادها، بما يجعل الاسلام بمنأى عن التلبس بأخطائها، ولذلك لا نجد أشد بشاعة من اسم (تنظيم الدولة الاسلامية) الذي أصبح وسيلة لتشويه الاسلام أمام كل شعوب العالم، وأصبح عنواناً لمسلسل من الجرائم المروّعة والاجتهادات الخاطئة التي تلحق الضرر بالاسلام والمسلمين بطريقة مؤكدة.
من يريد أن يخدم الاسلام أو يرفع من شأن الدين، أو يريد السعي لانقاذ الأمة، أو تحرير الشعوب الاسلامية بحسب رأيه واجتهاده، فليس هناك ضرورة ولا حاجة له ولا للدين لأن يفعل ذلك باسم الاسلام، وله أن يحاول ويبذل جهده؛ فان أصاب ونجح وأفلح فقد حقق هدفه، وأن أخطأ وفشل فهو يتحمل مسؤولية فشله وأخطائه، ولا يتحمل الاسلام عواقب هذا الفشل.
(الدستور)