الديمقراطية في الركن القصي من العروبة
جميل النمري
12-03-2007 02:00 AM
يجب أن تكون البلاد هكذا قصيّة عن قلب العروبة النابض حتى تنجح الديمقراطية في اكتساحها.هي مسألة حظّ بصورة ما؛ فقد صادف أن الانقلاب العسكري قد نجح، وصادف أن الرئيس الجديد كان مخلصا حقا، ومضى حتّى النهاية بوعده تسليم السلطة لصناديق الاقتراع.هذا الرجل - ولد فال- يستحق أن نطبع قبلة طويلة بين عينيه. فأي وحي عظيم هبط عليه! وأنزل في وجدانه الرضى والسكينة، ليقبل أن ينتقل من السيد الأول إلى رئيس متقاعد وهو بعد في ذروة قدراته؟!
وحتّى لا يسارع أحد إلى القول إنه ليس الأول، فقد سبقه سوار الذهب في السودان، نقول إن الحال مختلف تماما. ففي السودان حدثت انتفاضة شعبية قادتها القوى السياسية والنقابات في الشارع وأطاحت بالنميري، وتولّى قائد الجيش مؤقتا السلطة، ولم يكن رجل البلاد القوي ولا بيده سلطة حقيقية، وكان في الواقع صديقا لتيار الترابي ويتبع قيادته. أمّا ولد فال، فقد غامر بحياته في انقلاب عسكري تقليدي كان يمكن أن يفشل لأي صدفة سيئة قبل ساعة الصفر من دون أن يحدث شيء على المستوى الشعبي. وكما هي العادة في الانقلابات العسكرية، فقد أصبحت السلطة متمركزة بيد المجموعة الجديدة التي لا يمكن إزاحتها إلا بانقلاب عسكري، وقد حدثت انقلابات عسكرية سابقة فاشلة واستمر ولد طايع يحكم منفردا مع وجود معارضة ضعيفة ومشتتة ومقموعة، وكان يمكن أن يستمر بالحكم الى ما شاء الله، وأن يورث ابنه البكر أو غير البكر، على غرار ما يجري أو سيجري في بلدان العروبة الأخرى.
الدرس الأول الذي يستحق التذكير هنا هو دور القيادة في تقرير مصير البلاد. هكذا هو واقع الحال في دول العالم الثالث وفي الدول العربية خصوصا، من دون الخوض في التفاصيل والأسباب. والدرس الثاني أن المجتمعات مؤهلة تماما للديمقراطية والتداول السلمي للسلطة إذا ما قررت القيادة التحول إلى الديمقراطية والتخلي عن الاستئثار بالسلطة.
إن كل واحدة من الجمهوريات التي شهدت، أو هي قيد أن تشهد انتخابات التجديد المتكرر للقيادة، أو هي شهدت أو قيد أن تشهد انتخابات التوريث المبتكرة، كان يمكن أن تشهد في ظرف 24 ساعة التحول إلى انتخابات ديمقراطية تعددية تحقق تداولا حقيقيا على السلطة لو أرادت القيادة ذلك، وكل ادعاء آخر باطل بطلانا تاما، بدليل ما يجري في موريتانيا وهي ليست أكثر البلدان تقدما، ولا أكثر المجتمعات حداثة. بل إن القذافي سخر كثيرا، في تصريح له، من هذه المنافسة الانتخابية في بلد بدوي قبائلي، لكن السيد العقيد سيرى أن هؤلاء البدو القبائليين يطبقون - وفق ما أجمعت عليه التقارير الصحافية أمس- المنافسة الانتخابية الديمقراطية السلمية والنزيهة وفق أرقى المعايير الدولية! كل ما في الأمر - ويا لسعادتهم بهذه الصدفة الفذّة - أن توفر لهم قائد انقلاب عسكري لم يتعطش إلى السلطة ويلتصق بها حتى آخر يوم من حياته، يقبل في سبيلها قتل الخصوم وتشريد المعارضين واعتقال المشبوهين وتعذيب المعتقلين، وتحويل البلاد إلى سجن كبير.
ولد فال منع على نفسه الترشيح هو وزملاؤه حتّى لا يتكرر المسلسل السلطوي المعروف، وذهب أمس ليقترع قرب القصر الرئاسي، وأعاد التأكيد على التزامه بالمسار الانتخابي الديمقراطي - وهو ما أكّدته عشرات الهيئات الرقابية العربية والدولية والمحلية - فلم يمارس الجيش ضغطا من أجل أي مرشح.
وليس هنالك يقين إطلاقا حول فرص المرشحين، والمرجح أن تجري دورة ثانية بعد أسبوعين، فيكون هنالك قائد جديد سيكون هو القائد العام للجيش وفق الدستور. أمّا ولد فال، فقد حجز مجدا أبديا استحقه تماما في ذاكرة بلاده وذاكرتنا عموما.
jamil.nimri@alghad.jo