رسالة إلى جاري جعفر الطيّـار
زكريا النوايسة
01-04-2008 03:00 AM
كنّا صبية صغارا تحملنا شقاوة الصبا على أن نعيش ساعات لهونا في جنبات المسجد وكان يغرينا أن ندخله أو نخرج منه نطارد عصافيره التي اعتادت علينا ،وربما كانت ستشعر بالحزن لو كفّفنا عن ذلك ، وكانت عينه الحانية ترقبنا ونشعر أن يده تمتد إلينا إذ ما كبا أحدُنا فهو صديقنا صديق الصغار والعصافير والحياة كما كان في حياته أباً للمساكين والمتعبين .
لم يكن جعفر الطيار ميتاً في نظرنا ، فما أن ندخل حتى نلصق ظهورنا الى شبك قبره ، نبثه أحاديثنا وبعضا من مغامراتنا الصغيرة ، فمنطقنا الطفولي كان يكيّف بصرنا وبصيرتنا لنرى جعفراً الممتد في الحياة الرافض لقيد الشبك ، وكان يطغى على مخيلتنا الصغيرة أن أحدنا لو مد يده داخل الشبك لصافحه جعفر .
قادتني اقدامي قبل أيام إلى حيث جعفر الخير فإذا هو محاطٌ بطوقٍ من حجر ومسجون بشبك ليس كذاك الشبك ، فوقفت أمامه ولم أتمالك نفسي فمددت يدي نحو الشبك فإذا هو باردٌ وأحسستُ أنه يصدُني عن جاري ، فرجعت إلى الوراء وأخفيت وجهي بين يدي أداري دمعة وذكريات كثيرة ، وتملكني حينها إحساس أن جعفراً يرقبني ويمد يده لي والشبك البارد يمنع يده ويدي من أن تستعيدا ذكرياتنا القديمة .
جعفر الرائع رسم في قلوبنا قيمه النبيلة ، وأدنانا من كوامن النفس الرضية ، فما أن تذكره أو يأتي على الخاطر إلّا استدرجتك الذكريات إلى عوالم من الطيبة والبساطة والعفوية كان هو محورها وكان شخوصها رجال أحصاهم الزمان في دفاتره ، كانوا يتخطون الباب الاخضر ويسلمون على جعفر كصديق وأخ وجار ،لأنهم كانوا يؤمنون أنه ينتظرهم عند بوابة المسجد ليهمس في آذانهم أن جعفرهم الطيب الودود سيبقى يبحث عن خطواتهم كلما همّوا بالدخول .
يا جعفر الخير .. أين الجناحان اللذان كنا نشعر بخفقهما في سمائنا تنشر بهما حبك وعبق الشهادة ،وأين السيف والفرس وحمحمة الخيل وأين أبا أسامة وأبن رواحة الطيب ، يا جعفرنا سأعود في كل مرة لأقف أمامك وسأمدُّ بصري نحو القبر لأختلس النظر لعلّي أنفذُ إليك لأبثك لواعج شوق (المزاريين) ،فهم مثلي يبحثون عنك منذ أن غيّبك هذا الشبك البارد عنا ، وسأعود وإياهم مع كل فجرٍ نبحث عن شبكك القديم، لنعود نسند ظهورنا إليه ونخلع عنا ثوب كهولتنا ونقتنص بعض لحظات من طفولتنا الغائبة ، ونُغري عصافيرنا القديمة أن تعود سيرتها الأولى ،فجعفر الذي التصقنا به والتصق بنا حتما سيعود من جديد يمد يده لنا وسنستفيق ذات فجر فإذا بالجناحين يخفقان كعادتهما والصدى يرتد إلينا (لا إله إلا الله ) .
فعدْ – يا جعفر - وأحملنا على طُهرِ جناحيك وألقِ عنك العمامة التي علقت بشبككَ، فنحن من غيرها كنّا أكثر نُبلاً وسكينة ، و من غيرهاكنا جعفريون بالوراثة .