علينا أن نحسم خيارنا: الدولة المدنية أم الشيزوفرينيا السياسية ؟!
د.زهير أبو فارس
11-11-2014 09:53 PM
خلال العقود الخمسة الماضية تشكلت في بلادنا طبقة سياسية واضحة المعالم والأهداف وليست هلامية- كما قد يعتقد البعض-، حلّت، وللأسف، كبديل للحياة السياسية الحقيقية المنظمة والناضجة.
فإذا كانت النخب السياسية في خمسينيات القرن الماضي استطاعت افراز حكومات برلمانية قوية، نجحت في مواجهة العديد من التحديات التي واجهت البلاد، ومن أهمها تعريب الجيش العربي وطرد كلوب، وفي مرحلة بالغة الخطورة والتعقيد اقليمياً ودولياً، فإن النخب أو الطبقة السياسية الحالية، فشلت حتى الساعة بالوصول بمجتمعنا الى حياة سياسية حقيقية، من خلال أحزاب جماهيرية مؤثرة، قادرة على مواجهة استحقاقات المرحلة والتحديات الهائلة والمصيرية التي تواجه بلادنا داخلياً وخارجياً، وإحداث التغييرات السياسية والاجتماعية التي تتناسب مع حجم هذه الأخطار والتحديات.
وهنا يبرز التساؤل المنطقي: ما هي الأسباب الموضوعية لهذه الأزمة التي تعيشها نخبنا السياسية والاجتماعية، وهل يمكن الخروج منها، وكيف؟
إن كاتب هذه السطور يرى أن المشكلة ليس في العامة او الناس العاديين، بل في الطبقة السياسية والاجتماعية والفكرية نفسها، التي استطاعت أن تنسج شبكة واسعة ومحكمة من العلاقات النفعية القائمة على المصالح والنفوذ في المجالين الاقتصادي والاجتماعي، تمخّض عنها حالة سياسية - اجتماعية مشوّهة، تمّ توظيفها باتقان لخدمة هذا الواقع، الذي يتناقض تماماً مع هموم وتطلعات غالبية الشعب، وكذا مصالح الدولة الأردنية.
صحيح أن هذه النخب تتصارع فيما بينها من خلال مراكز القوى التابعة لها دفاعاً عن مصالحها ونفوذها، لكنها جميعها تلتقي على مقاومة التغيير والاصلاح الحقيقيين، أو تأخد منه ما يخدم أهدافها واجندتها.. وإلا، فكيف لنا أن نفهم التعطيل والافشال المتواصل لأي مشروع نهضوي يستهدف تطوير الحياة السياسية والاجتماعية والفكرية، وصولاً الى الدولة المدنية – دولة المواطنة، والمؤسسات، وسيادة القانون، التي تسود فيها قيم الحرية، والعدالة، والمساواة، وتكافؤ الفرص، واحترام حقوق الانسان، كبديل عن المفاهيم المشوّهة، والانتماءات الفئوية والجهوية والمناطقية، بل وحتى الطائفية والدينية والمذهبية الضيقة، والتي في مجملها تندرج ضمن مفهوم عقلية وممارسات ما قبل الدولة.
ويبدو أن استمرار هذا الواقع تساهم في تكريسه وتعميقه فكراً وممارسة مراكز القوى المنبثقة عن النخب السياسية والاجتماعية إيّاها. ومن المفارقات الملفتة للانتباه أن الصراع الدائر بين مختلف تيارات هذه النخب لم يكن يوماً يحمل مشروعاً او برنامجاً وطنياً يصب في مصلحة الوطن والغالبية الساحقة من شعبنا، بل على العكس، فإن استمرار سيطرتها على المشهد السياسي- الاجتماعي، والتشبت بالمصالح الأنانية، انعكس بنتائج كارثية على الوطن وأبنائه وأجياله القادمة، من خلال احتداد الأزمة الاقتصادية، وما يرافقها من فقر، وبطالة، ومديونية، وعنف، وفوضى، وانسداد آفاق المستقبل، وبخاصة بالنسبة للفئات الشابة من مجتمعنا.
إن الخروج من هذا الواقع المأزوم يتطلب صحوة حقيقية لشعبنا وقواه الحيّة والواعية، المنتمية بإخلاص لتراب وطنها الأردني، والمعبرة عن تطلعات وآمال وأحلام الأردنيين والأردنيات، نحو حياة حرة كريمة، في اطار دولة المواطنة ومظلة الهوية الوطنية الأردنية الجامعة، كبديل عن الهويات والانتماءات الفرعية والفئوية الضيقة.
وهذا يحتاج الى ثورة حقيقية في الفكر والثقافة والتربية والاعلام، وبخاصة لدى أجيال الشباب، الأقدر على انجاز التغيير الجذري المطلوب، وهو قادم لا محالة، فعجلة التاريخ لن تتوقف، ولن يتأتى ذلك إلا بوجود حياة سياسية فاعلة بعناصرها الأساسية، ومنها الأحزاب القوية، والانتخابات الديمقراطية، المعبرة عن تطلعات كافة فئات الشعب، ومشاركتهم في الحكم واتخاذ القرار، وتدوال السلطة، من خلال الحكومات البرلمانية. وخلاف ذلك ، فإن الاستمرار في سيادة عقلية وممارسات ما قبل الدولة، لا يمكن أن تبني دولة حديثة، مهما طال الزمن.
فهل نحن حقاً جادون في تحويل ما نتقنه من تنظير حول ضرورة وأهمية الاصلاح، والدولة العصرية- دولة القانون والعدالة والمؤسسات، الى أفعال وممارسات حقيقية على الأرض، أم أننا سنستمر في ممارسة شيزوفرينيتنا السياسية والاجتماعية، عندما نتحدث عن الاصلاح والعصرنة ونمارس العكس ؟!